مع حصول شكري المبخوت على أهم جائزة عربية وأعني بها البوكر التي ظلت مستعصية على الروائيين التونسيين.
في هذه السنة بلغ عدد الروايات التونسية التي شاركت في جائزة الكومار الاربعين.وفي هذا دلالة على إقبال الكتاب التونسيين على دنيا الرواية وغواياتها.
وقد قرأت عددا منها مثل عشيقات النذل/ ومرايا الغياب /توجان ، الرواية الصادرة عن دار برسبيكتيف للنشرسنة 2016،و التي ما إن بدأت قراءتها حتى علقتها فألفيتني في عالم سردي لم أتعوّد عليه في الرواية التونسية، فقد جمع بين الأسطورة والتشويق والشعرية الآسرة.
• التشويق
إن أحداث الرواية لا يتجاوز وسعها الزمني يوما أو أكثر بقليل.يبتدئ من عودة سلطان ولد الغزال من كندا وسعيه لملاقاة صحراء بنت لحمر التي كانت واقفة على صخرة .وأثناء سعيه إليها يتم استرجاع الماضي وما فيه من قصة تأسيس توجان من قبل الجد الأول الفارح ولد الغزال ثم انقسام توجان إلى عرشي أولاد لحمر واولاد الغزال وخصوماتهما بسبب الماء الشحيح،وتجبر أولاد لحمر واستيلاؤهم سرا على عين ماء سرية في منزل لحمر والد صحراء التي عشقها سلطان ولد الغزال.
ولأن صحراء أحست بالذنب بسبب تحيل أهلها على الآخرين فقد وثقت بسلطان وأسرت له بسر عين الماء السرية التي ينعم بها أهلها في حين يعاني أولاد الغزال من شح الماء.
أحس سلطان بالخديعة فهجم على منزل الأحمر .ورأت صحراء أن سلطانا خان السر فأطلقت تلك الصرخة
غدرت بي يا سلطان.بعد ذلك يصبح سلطان مطلوبا من قبل آل لحمر فيفر إلى كندا ويصير رجل أعمال .لكنه ظل مسكونا بتوجان وصحراء.وقرر العودة بعد عشرين عاما.وحين وصل الصخرة أدرك أن صحراء تعرف كل هذه الأحداث نعرفها قليلا قليلا وسلطان يقترب من الصخرة حيث الحبيبة صحراء التي أحبها وأحبته حبا مجنونا معربدا متحديا كثيرا ما تخللته الخصومات بسبب المعارك القديمة بين العرشين وتعصب كل واحد منهما لآله.
إن روعة الرواية ليست في الأحداث فقط وإنما خاصة في تلك الحبكة والصياغة والتقديم والتأخير والإعادة .فنحن أمام نساجة بارعة وصبورة تحيك زربيتها في صبر وأناة بارزين.
فهي تورد بعض الأحداث وتشدك إليها .ثم تنقطع إلى حكاية أخرى وتتركك تلهث خلف الوقائع الطارئة وعينك على الخبر الذي لم يكتمل والذي يباغتك في موضع آخر وقد اشتبك بحكاية جديدة.
وفي كل مرة تحسب سلطانا قد وصل إلى حبيبته الباهرة فإذا الأحداث كصبية مغناجة تراوغك وتواعدك في مقطع آخروهكذا...
وأخيرا وحين يصير سلطان أمام الحبيبة الموعودة ويظن القارئ أنه الوصل بعد بعاد، يكتشف البطل ومعه القارئ أن الزمن قد ضرب ضربته وأن صحراء الباهرة قد ماتت.فصحراء صارت عمياء لاترى ونظراتها بلهاء لا تعني إلا الخراب والوجيعة.
وأنا واقف ، مطحونا بالقهر والعجزأمام عينيك المطفأتين بماء مبيض يغشي سوادهما ويفسد صفاءهما.....وها أنا واقف يهرسني العجز والقهر ...وها انت تقفين مترددة على ظهر الصخرة ...تخبطين بيدك الهواء تنتظرين من يلتقطها ليقودك نحو الأرض...ص – 272-
• الاسطورة
رغم أن أوطاننا تعج بالأساطير ومكتظة بالعجيب والغريب ورغم أن ألف ليلة وليلة استلهمت منها وألهمت العالم و أسس أدباء أمريكا اللاتنية أمجادهم على تلك الأحداث اللامعقولة التي أبهرت العالم. فانطلق غابريال غارسيا ماركيز من حكايات ماكوندو وهو يردد العالم يبدأ من قريتي.إلا أن هذا العنصر يكاد يكون معدوما في أدبنا التونسي.
وقد تفطنت آمنة الرميلي إلى ذلك حين أدركت أن بلدنا مليء بالأساطير والحكايات التي ظلت منسية أو متداولة فقط في الثقافة الشفوية التي تقريبا لم يلتفت إليها أحد فجعلت منها أسا من أسس روايتها.
تعددت الأساطير في رواية توجان .وقد ارتبطت كثير من الأحداث بالعجيب والغريب.فليلى ولدت عائشة الباهرة الحسن وابنة الشيخ علي،اقترب القمر حتى كاد يلامس الرؤوس حتى ما عاد أحد قادرا على النظر إلى السماء. (ص31 /32).
وعشق صالح ولد الغزال حيزية بنت الاحمر ورفض أهلها تزويجها منه ، فتزوج امرأة غيرها.ليلة الزواج حزنت حيزية وأطلقت صرخة لم يسمع مثلها وماتت.ليلتها انفجرت ما بين ماء اولاد لحمروماء أولاد الغزال ، عين مالحة لها في أرض أولاد الأحمر قدم وفي أرض أولاد الغزال قدم (ص 73)
فكأن تلك العين المالحة غضب سماوي على الظلم الفادح الذي لحق بالعاشقين إذ لزم صالح قبر حبيبته حتى لحق بها.وصار يظهرمرة كل عام بين القبور (ص 153)
ونشأت عائشة فارسة لا يشق لها غبار ماهرة في كل شيء حتى إنها روضت الذئاب.وحين بلغت مبلغ النساء وحجبها أبوها جاءت هذه الوحوش لتطمئن عليها (ص202).
وهي إلى جانب ذلك متحت من الذاكرة الغنائية فأحسنت المتح من خلال أغنية يمة يا غالية التي جعلتها مواتية تماما لموضوع العمل.فصحراء التي ضاع منها حبيبها أو غدرها غنت عن ذلك أغنية حزينة ملوعة تقول
ما نحسبك خوان يا غالي
يا شماتة العدوان فيك وفي (ص257)
هي الأغنية التي صارت صحراء تغنيها بكل مواجدها في كل عرس بإلحاح من الحاضرين .
• الشعرية
من المعلوم أن أي عمل أدبي هو لغة قبل كل شيء بها يقد وبخيوطها ينسج وعلى ضوئها يفهم ويؤول ويأخذ مداه.ويبرز ذلك خاصة في الشعر الذي تبرز فيه براعة الشاعر وقدرته على الوصف والمجاز والاستعارة والتشبيه والموازاة والخروج عن المألوف وغيرها من أفانين اللغة.
وقد اشتغلت الروائية آمنة الرميلي في روايتها على اللغة وحسبنا في بعض المقاطع أنها صارت غاية عملها رغم أن أولويات الروائي هي أن يكون لعمله منطق وتشويق وخلق لواقع مواز للحياة قد ينطلق منها لكنه يتمرد عليها.
في توجان سبكت الرميلي روايتها كما تسبك النساجة زربيتها.إذ العبارة مسبوكة والجملة شاعرية والصورة موفورة حتى حسبنا الرواية مغازلة للغة.تصف الروائية لحظة حميمة بين الفارح الغزال وزوجته فتقول مددها الفارح الغزال على الماء وانصب عليها..سمعت الصخرة شهقتها الأولى والماء يغمر ظهرها ونصف عنقها..سرير من الماء في هذا الحر..وشوش الفارح الغزال في أذنها،لا ألذ من سرير من الماء في هذا الحر (ص46 ).
نحن أمام زوجين يتساقيان الحب بطريقة غير مألوفة .فالسرير صار الماء والصخرة فقدت صلابتها أمام المشهد البديع وهي تسمع شهقة اللذة الأولى جانب رقرقة الماء ورومانسية الفارح الذي جمع بين الفحولة والشاعرية فهو ما عاد يتحدث وإنما يوشوش.
وتتحدث الروائية عن توجان بعد المطر قائلة وغنت السواقي رائحة غادية بين قلب العين وغابات الزيتون والنخيل وكروم التين والعنب ،وانتشرت في أجواء توجان روائح أخاذة وأضاء لياليها قمر لم ير الناس مثل ضوئه..ضوء مغسول ناصع ، تتفتت فضته في كل مكان و ترمي على توجان بلحاف متلألئ يخطف الأرواح ص53
في هذا المقطع الوصفي تستعمل الكاتبة ثلاث حواس السمع والبصر والشم.وحين تتكثف الحواس فذلك دليل على عنفوان الحياة وبهجتها.وقد اشتركت عناصرالطبيعة في كرنفال الفرح(السواقي الثمرات القمر) .فاستعملت التشخيص .فأسندت الغناء إلى السواقي.وجاء القمر مغتسلا في أبهى حلة.ويصير ضوؤه لحافا لا أبهى منه.إننا أمام مشهد سيمته البهجة ،يغمره النور وتعمره الموسيقى.
أما عائشة بنت الأحمر فهي قمرة توجان ونجمتها الضواية، أم الحزام خاو ، أم ذراع طويل ، أخت السبعة رجال وصائدة الرجال وقاتلتهم..أول امرأة في توجان حكمت الماء والذئاب ص154
يجمع هذا المقطع بين لغة فصيحة وأخرى شعبية حين تحدثت عن مقاييس الجمال عند سكان الصحراء الذين يشبهون المرأة الجميلة بالقمرة والنجمة ويفضلونها طويلة نحيلة الخصر .وفي ا لمقطع نفسه عبارة فصيحة استعمل فيها اسما فاعل وصيغة تفضيل وفعلا يحيل على السطوة والبراعة(حكمت).
وهي إلى ذلك تستعمل كلمات تجمع بين العامية والفصاحة لتقريب الصورة مثل كلمات تتبحبح فشخ غثيث هفت وغيرها.
حين تحضر الحبكة وتشرق اللغة ويمتزج الواقعي بالخيالي ضمن استراتيجية محددة، وقتها لا يمكن للعمل الروائي إلا أن يكون بديعا.وهكذا كانت توجان.
لقد متحت آمنة الرميلي من المخزون الشعبي الذي ظل منسيا وشكلت منه عملا روائيا يعتبر في ظني واحدا من أجمل ما كتب في السرد التونسي في السنوات الأخيرة.
وفي هذا رد على تلك القراءات الساذجة التي رأت في توجان استنساخا لكتابات الكوني.ويبدو أن ذلك الناقد لم يفهم الكوني ولم يقرأ توجان.
حميد عبايدية