هل ستكون البشرية بخير في غياب الموت ام انها ستعيش ازمة اقتصادية واجتماعية مضاعفة؟ هكذا يطرح التساؤل في مسرحية «في مديح الموت» اخراج علي اليحياوي وانتاج مركز الفنون الركحية والدرامية بتطاوين، تجربة وجودية وفلسفية جديدة يخوضها المركز متناولا بالطرح موضوع الخلود والموت:
«في مديح الموت» نص رضا بوقديدة عن «انقطاعات الموت» لجوزيه ساراماغو وترصد احساس الانسان بالموت وتمثّله له، مسرحية جريئة وناقدة من تمثيل كل من كمال العلاوي وامينة الدشراوي وعواطف العبيدي ومحمد الطاهر خيرات وحمزة بن عون وأسامة حنايني وعلي قياد ورياض رحومي وعبدالسلام حميدي وعمر الجمل وأنور بن عمارة وهيفاء كامل وتوظيب عام لعبد الله شبلي، مسرحية صرخة ضدّ كل اشكال الانتهازية والمحاصصة السياسية على حساب الاوطان.
المسرح فعل جريء لا يعترف بالممنوع
يمتزج الواقعي بالخيال، تلتحم القيم الوجودية بأخرى فلسفية، موضوع العمل هو الموت، وسؤال هل الموت سيء؟ هل الموت سبب المشاكل والخوف ام هو في لحظة ما رحمة للبشرية اقتصاديا واجتماعيا، الموسيقى صاخبة، اصوات لسيارات الاسعاف تصنع موسيقى العمل، الوان خافتة كأنها نذير بالنهاية، في عالم الخوف تدور احداث المسرحية، المكان امكنة بين الموجود والمنشود، الموجود جمهورية برلمانية تعيش اكتظاظh غير مسبوق في عدد المرضى ورافضي الموت، حالات حرجة تنجو من الموت، في مكان ما يقرر الموت الانسحاب لسبعة اشهر كاملة.
غياب الموت في البداية ربما يشكل رمز للفرح فلن يكون هناك حزن او بكاء لفقدان الاعزاء والأحبة لكن طول غيابه عن الجمهورية سيكون سبب بلاء، يزداد عدد المرضى والشيوخ، sتمتلئ المصحات والمستشفيات، تنهك الميزانيات المخصصة للصحّة، تنتشر الشيخوخة والخوف ومعها الازمة الاقتصادية والاجتماعية الخانقة التي سببها انسحاب الموت من تلك الجمهورية البرلمانية.
«في مديح الموت» مسرحية تعالج معنى الموت بطريقة فلسفية ورمزية، فالموت ليس فقط بمعناه الجسدي بل المعنى القيمي والأخلاقي والمجتمعي، يطرح من الجانب الديني والمنظور الاقتصادي والاجتماعي، موضوع فلسفي يشرحه الممثلون على الركح بطريقة بارعة فهم ينتقلون من شخصية الى اخرى بكل سلاسة وسرعة، ينتقلون من حالة نفسية الى اخرى ومن فكرة الى اخرى مختلفة في لحظات وكأنهم يسارعون الزمن ومعه يسارعون الاسئلة التي سيطرحها المتفرج اثناء مشاهدة العمل.
«في مديح الموت» كتب العمل في ظرف صحي وعالمي مخيف، عولج العمل مسرحيا في فترة الحجر الصحي الشامل ثم الارقام المهولة لعدد الموتى في تونس والعالم فترة انتشار مرض الكوفيد19، الخوف الذي بثته القنوات التلفزية ووسائل التواصل الاجتماعي اسكن المخرج علي اليحياوي بسؤال «هل الموت بشع؟ ماذا لو تخلى الموت عن مهنته واصبح الخلود مآل كل البشر؟ هل ستكون الوضعية النفسية والاقتصادية والاجتماعية للجمهورية أفضل؟ سؤال وضعه على الركح في عمل مسرحي مسكون بالترميز و الاسئلة والحيرة والدعوة الى التفكير، فالمسرحية تبث في متابعها الخوف والحيرة وتدفعه للبحث ومحاولة الاجابات عن الاسئلة الكثيرة المتروكة جانبا.
في مديح الموت، هل نمدح الموت ام نخافه؟ في الحالة العادية نخافه ونهابه لكن بعد مشاهدة العمل نمدحه فالموت ينقذ الجمهورية من شبح الافلاس من المتاجرة بالبشر من شبح الخرف والشيخوخة، ينقذها من خوف لا يعرف النهاية، ينقذها من الالام النفسية والجسدية التي استطاع الممثلون نقلها الى الجمهور بكل صدق.
تتصاعد الاحداث في المسرحية، الديكور واحد يتغير حسب المشاهد، سرعة بين المشاهد، لكل شخصية لباسها وطريقة كلام وتعبير يختلفان عن الاخرى، سباق مع الوقت وانفعالات الشخصية وخوفها، تشريح لواقع اقتصادي جد سيء وواقع سياسي اكثر سوء فرئيس الحكومة ووزارئه هم من يقررون، دون العودة الى رئاسة الجمهورية، تناحر بين الوزراء بسبب اختلاف المصالح والرؤى، الكل يبحث عن مصلحته الذاتية ومزيد الرقي في السلم على حساب المجموعة التي تعاني من الخوف في غياب الموت، صراع متواصل بين النقابات والمنظمات المهنية، احتجاجات دائمة للمطالبة بالتعويضات، جري وراء ثقافة «البوز» والحصول على اكثر نسب مشاهدة دون الانتباه للمصلحة العامة او لصورة الوطن في الميديا، من رحم كل هذه التناقضات ولدت مسرحية «في مديح الموت» لتكشف قبح الواقع وممارسي السياسة والبعض من ممتهني الاعلام وتعيد تشكيل المجتمع بطريقة فلسفية ووجودية عنوانها السؤال.
يغيب الموت لأشهر طويلة، يرتفع عدد الشيوخ، تكتظ المستشفيات بالمرضى، تنتشر الشيخوخة بطريقة مفزعة، حوادث السيارات المخيفة كلها حالات تبعث الرعب حين تبقى مرمية تنتظر الموت الذي لا يأتي حينها يصبح تهريب الاجساد التواقة الى الموت الى دولة مجاورة هو الحل لتظهر «المافيا» دولة داخل الدولة ومهمتها تسهيل الموت للبشر مقابل اموال طائلة، فالعمل ينقد فكرة «الموازي» و الاستثمار البشع في الموت لإغراق الدولة بالديون وتحقيق الارباح للحساب الخاص كما حدث في ازمة «الأدوية» و «الطحين» و»مواد التنظيف» فترة الحجر الصحي الشامل.
هزمتك يا موت الفنون جميعها
في مديح الموت، مسرحية فلسفية، تعالج رمزية الموت، مسرحية جريئة وناقدة، على الرّكح لا وجود للمنوع او المحرّم، عمل ينتصر للقيم الانسانية والأخلاق مسرحية تكشف تشوهات المجتمعات والمحاصصات السياسية والاجتماعية على حساب الفرد والوطن، عمل ينتصر للإنسان الصادق ويكشف قبح المتاجرين بكل القيم الوجودية بما فيها الموت.
مسرحية تمدح فكرة الموت الرمزي وفي الوقت ذاته تؤكد ان الموت الفكري او الجسدي يعجز عن قتل الرموز، مشهد قويّ جدا يبرز الممثل الساحر كمال العلاوي صحبة كلبه يرتكز بعصاه على الركح وصوت الموت ينبعث في القاعة، حوار بين شخصية الموت «امينة الدشراوي» وكمال العلاوي باسمه وصفته على الركح (ليس شخصية) يسالها عن الميعاد (ميعاد موته) فتخبره (مازال بكري)، حوار ثنائي الغاية منه كشف ان العظماء لا يموتون، الفنانون باعثو الامل وراسمو الحلم لا يموتون وان غادرت اجسادهم يوما ستبقى كتاباتهم وانجازاتهم خالدة، فشكسبير لم يمت ونصوصه وشخصياته كذلك، علي بن عياد لم يمت ولن يموت، سفيان الشعري محفور في ذاكرة المحبين، «نعمة» لم تغادر ولازلت اغانيها ترنيمة للحياة، كلّ الفنانين الذين غادرتنا اجسادهم لازالت اعمالهم شاهدة انهم هنا، نصوصهم ومسرحياتهم وأغانيهم ستظل شوكة في قلب النسيان، سيقون خالدين دائما اذ هزمتك يا موت الفنون جميعها.
مسرحية «في مديح الموت» لـ علي اليحياوي في مركز الفون الركحية والدرامية بتطاوين: أيّهما أكثر بشاعة فكرة الموت أو فكرة الخلود ؟
- بقلم مفيدة خليل
- 10:29 23/12/2021
- 810 عدد المشاهدات
هلأن الموت بشع؟ هل أننا نبحث عن الخلود؟ لم كل الخوف من شبح الموت؟ ماذا لو قرر الموت ترك مكانه لأشهر طويلة وعدم المجيء الى الأرض؟