وتظهره في صورة مختلفة، السينما بحث في التفاصيل وحفر في كل الأبعاد المجتمعية والاقتصادية والنفسية.
فهل تساءلت يوما عن وضعية المرضى النفسيين أثناء فترة الحجر الصحي الشامل؟ هل خصصت لهم برمجة او نصائح لمساعدتهم على تجاوز ازماتهم؟ وهل الأمراض النفسية نعترف بها في منظومتنا المجتمعية كما الأمراض العضوية؟ هل نعطي لمن يعانون من «الوساوس القهري» او «الاكتئاب» او «الفصام» وكل الاضطرابات النفسية نفس العناية الموجهة لمن يعاني من مرض جسدي واضح؟ هكذا تتساءل كاميرا نجيب بلقاضي في فيلمه الجديد «قربان» وهو من تمثيل الثنائي سهير بن عمارة ونجيب بلقاضي وانتاج «بروباغندا».
السينما وسيلة للتوعية والانتصار للمستضعفين
«قربان» حكاية تبدو بسيطة لكن طريقة التناول كانت ممتعة، الكاميرا تكون صوتا لمن يعانون من مرض نفسي وكيف عايشوا فترة الحجر الصحي الشامل، في «قربان» تنقل الكاميرا قصة زوجين قيس «نجيب بلقاضي» وسارة»سهير بن عمارة» اثناء فترة الحجر الصحي الشامل وما تعيشه تلك العلاقة من تصدّعات وتشوّه بسبب معاناة قيس من مرض نفسي يؤججه الحجر وعدم العمل وندرة النداء حتى يقرر الرجل ان يقدم نفسه قربانا للموت ولفيروس كورونا ايمانا منه ان بتضحيته سيتنهي بها العالم.
«قربان» يسلط الضوء من خلال شخصية قيس على حاملي الامراض النفسية او التعب النفسي الذي سببه الحجر الصحي للعديد من المواطنين، شخصية قيس العامل بشركة لاستيراد السيارات، يبدو من خلال الصورة الكلاسيكية انسانا سعيد له عمل محترم وسيارة فارهة وزوجة جميلة ومحبة للحياة لكنه في الداخل يعاني من مرض نفسي منذ الطفولة، يرى اشياء ويسمع اصوات غير موجودة في مخيلته تتدافع الاف الأصوات والصراخات التي تجعل منه هشّا ومتوترا منذ الدخول في الحجر الصحي الشامل والبقاء بين الجدران، شخصية تعيش على الادوية وبمجرد تخليه عن دوائه يصبح عنيفا ومشوّها فكريا، لا يمكنه تجميع افكارهه او التحكم في تصرفاته، شخصية تعاني من الوساس القهري «كل الملابس توضع في كيس وتغسل بالوقت في درجة حرارة عالية، الكمامات وجال المعقم فوق القفازات ومعها الاغتسال بماء الجافال خوفا من العدوى».
تتواصل الحالة الهستيرية للشخصية حدّ رؤية فيروس كورونا يتجول في السماء ويرسل له طلب صداقة على منصات التواصل الاجتماعي وتعيش الشخصية منعرجا اخر في الحديث المباشر مع «كورونا» بشكلها الدائري ورؤوسها لاقتناعها ان «الفيروس» منقذ الطبيعة والارض من تشوّه يصنعه الانسان ويقتنع قيس ان «كورونا» العظيم اختاره ليكون رسوله ووسيلته للقضاء على البشر ويكون «قربان» للطبيعة، تقتنع الشخصية بالفكرة ويزور احدى المصابات طلبا للعدوى.
في قربان ينجح نجيب بلقاضي في تقديمه لشخصية معقدة، تتصاعد انفعالاتها النفسية ويجسدها في حركات اليد المرتعشة في النظرة التي تنطفئ وتنكسر تدريجيا بين اول الفيلم الى اخر، من خلال طريقة النطق والتعبير، يتقن بلقاضي التفاصيل النفسية ويوغل في دراستها وتقديمها الى الجمهور، شخصية «قيس» يدعو الطبيب لايوائها في «الرازي» هي شخصية موجودة بكثرة في المجتمع التونسي، من يعانون من امراض نفسية متفاوتة حلقة اساسية في المنظومة المهنية والمجتمعية لكنها حلقة لا ينتبه اليها الا بعد ارتكابها لجرائم (الانتحار او القتل)، شخصية ينتصر لها بلقاضي في صدقه في الاداء ويكون الفيلم بمثابة رسالة التوعية للالتفاف للمرض النفسي وتأثيره السلبي على الفرد والمجموعة.
السينما صورة لواقع مشوّه دون الوان
الم فامل، ابيض فاسود، موت فحياة، هي متناقضات او ثنائيات يدور في فلكها فيلم قربان لنجيب بلقاضي، قربان الذي فرضته ضرورة الحجر الصحي الشامل الذي عاشته تونس والعالم خلال العام 2020 ومن رحم الوحدة والضيق النفسي الذي عاشه بلقاضي ولد نص الفيلم الذي كتب في خمسة ايام وكان بمثابة العلاج النفسي لي اولا قبل ان يكون علاجا للاخرين، وصور الفيلم اولا في بيت بلقاضي وكان الفريق محدود والتعامل يتم عن بعد ليولد الفيلم عنوان للمقاومة، المقاومة لاجل الحياة والسينما «لم افكر بانجاز فيلم او مشاركته في مهرجانات، الهدف الاول كان كتابة وتصوير ما اشعر به في تلك اللحظة وفي الحقيقة سعدت جدا بتلقائية سهير التي قبلت النص والمشاركة في الفيلم منذ الرسالة الاولى» كما يقول بلقاضي امام جمهور مسرح الجهات بمدينة الثقافة.
يسيطر على فيلم «قربان» اللونان الابيض والاسود وكأن بالمخرج يريد محو كل الاضافات اللونية والاكتفاء فقط بلوني الحياة والموت ففي تلك الفترة كان الجميع اما يعيشون أملا او الما ولا وجود للالوان الاخرى، غياب الالوان كانه رسالة لمزيد التركيز على البعد النفسي للأشخاص والشخصيات ايضا، من خلال غياب الالوان ينقل بلقاضي التشوهات التي يعيشها المجتمع التونسي والتي ظهرت في تلك الفترة، التشوه ينطلق من معلقة الفيلم فوجهي الشخصيتين مشوّهان عبر تمطيط مكان العين وكأنها دعوة لمزيد فتح العين والامعان جيدا في القبح المنتشر بيننا في مجتمعنا.
التشوه الاخلاقي ينقل عبر مشهد العائلة المرمية في الخارج لعدم سدادها لثمن تسويغ المنزل ومنه معاناة الافارقة المقيمين في تونس في تلك الفترة والظروف القاسية التي عايشوها في علاقة مع اصحاب المنازل، كذلك النبذ والتعنيف الذي تتعرض له احدى عاملات الهوى بعد اغلاق كل فضاءات العمل والتعنيف والطرد من طرف الجيران «لو يسمعوا باختي كورونا سيطردوننا» في المقابل درجات الابيض قليلة تتجسد في المساهمات الفردية تجسدها «سارة» فالكاميرا تضع امام الجمهور تشوّهه الاخلاقي والقيمي ومنه الفساد المجتمعي ما يؤدي الى فساد اقتصادي واجتماعي وسياسي فالفرد هو صانع الامل والتغيير ومنه يولد الامل الجماعي في التغيير.
«قربان» تجربة سينمائية وانسانية جديدة لنجيب بلقاضي، فيلم ينتصر للابعاد النفسية ويصنع منها مادة سينمائية ساهم في انجاحها فريق متكامل يؤمن ان السينما مقاومة.