ولم يتفوّق أحد على بلاغة الشعراء العرب في نظم قصائد الغزل سواء كان عذريا أو إباحيا. وفي فيلمها الجديد «مجنون فرح» نفضت المخرجة التونسية ليلى بوزيد الغبار عن كنوز أدبية منسية وأعادت الاعتبار إلى تفوّق العرب في نقل لوعة الهوى ووصف إثارة الجسد والتغني بملذات الحياة.
قبل منافسته على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية2021، احتضنت قاعة الريو بالعاصمة العرض الخاص بالصحفيين لفيلم «مجنون فرح» بحضور مخرجته ليلى بوزيد والبطلة زبيدة بلحاج عمر. ويعرض الفيلم حاليا في القاعات التونسية.
إعادة الاعتبار إلى مدونة الشعر العربي
استعارت المخرجة ليلى بوزيد من «مجنون فرح» العنوان والجنون لتسم فيلمها الروائي الطويل بـ «مجنون فرح». ومن العنوان إلى المضمون تسرّب شعر قيس ابن ملوّح وانسابت رقة شعوره في وصف عشقه الجنوني لحبيبه ليلى التي استحال الوصل بينه وبينها.
في جامعة السوربون كان اللقاء بين «أحمد» (سامي عوطالبالي) و»فرح» (زبيدة بلحاج عمر)، كان هو فرنسيا من أصول جزائرية أما هي فقد قدمت لتوّها من تونس لدراسة الأدب في فرنسا. ومن «نظرة، فابتسامة، فسلام» نشأت قصة حب بين الاثنين المختلفين في نظرتيهما لمفهوم العشق ورغبة الجسد. في الوقت الذي تطير فيها «فرح» كالفراشة في سماء الحب بلا قيود ولا حدود، يخجل أحمد من البوح بمشاعره ويكبت رغبة جسده في الوصل مع حبيبته منتصرا إلى شعراء الغزل العذري الذين يدرس قصائدهم في الجامعة. فيرى أن الحب حرمان وأن العشق الحقيقي هو درجة من درجات الهيام الصوفي بالمحبوبة دون الوقوع في دنس الجسد. فهل يصمد أحمد إلى النهاية؟
كانت مدونة الشعر العربي القديم بكل ثرائها وألوانها وجمالها... محور ارتكاز عدسة كاميرا ليلى بوزيد التي نفضت الغبار عن هذا الموروث الفريد من نوعه ودرره الثمينة من المؤلفات والأشعار. لقد بحثت مخرجة «مجنون فرح» طويلا في العناوين وفتشت كثيرا في المراجع لتنتقي منها أعذب الشعر وأرهف القصائد التي تغنت بالحب والشهوة والرغبة والخمرة بمنتهى الشاعرية والروعة.
أزمة هويات ... حيرة شباب
في هجرتهم الطوعية أو القسرية إلى أوروبا، كثيرا ما يستقر المهاجرون العرب هناك جسدا فقط في حين تبقى أرواحهم معلقة بين البلدين وهوياتهم مشروخة... في أحياء على الهامش ومنازل ضيقة، يعيش أغلب المهاجرين في تمزق بين الانصهار في ثقافة البلد الحاضن والتمسك بثقافة البلد الأم. ولم يكن البطل «أحمد» وعائلته سوى نموذج عن عائلة عربية الأصول تعيش في باريس بعقلية عربية محضة يخفيها لسان طليق في التحدث بالفرنسية. تحتد أزمة الهوية عند الشباب العربي صاحب الجنسية الفرنسية، فيحتار عند أول اختبار له في الحياة بين الوفاء لتنشئته المحافظة وبين مجاراة نمط العيش في البلد المتحرر. لقد كان «أحمد» شابا عربيا لكنه لا يجيد القراءة والكتابة باللغة العربية، كما أنه يجهل إرث الحضارة العربية بما في ذلك الأدب العربي مجال تخصصه ودراسته في جامعة السوربون.
ولأن العلم نور والمعرفة تزيل الحجب عن العقول، فقد كانت الجامعة بمثابة المشكاة الذي أنارت الطريق أمام بطل «مجنون فرح». وبفضل دراسة مادة الأدب المقارن والتعرف على ثراء المدونة الشعرية العربية في وصف الحب والرغبة تصالح «أحمد» مع نفسه وجسده وحبيبته «فرح».
جمالية صورة ... روعة موسيقى
«إذا أردنا أن نتخيّل الجمال في أكمل صورة فيكفينا أن نستمع إلى موسيقى جميلة»، وفي فيلم «مجنون فرح» أطلقت المخرجة ليلى بوزيد العنان للموسيقى لتصدح عاليا باسم الحب والفرح والحياة. لقد كانت الموسيقي من نقاط القوة التي رفعت من سقف حظوظ الفيلم في نيل إعجاب الجمهور، كما كانت المعزوفات والنوتات رفيقة الشخصيات وترجمان أشواقها وصخب مشاعرها واضطراب أفكارها...
لم يكتف فيلم «مجنون فرح» بالاستعانة بموسيقى تصويرية مسجلة بل احتفى بمقاطع حية من أنماط موسيقية مختلفة على غرار مشهد عازف الساكسوفون على ضفاف نهر السّين و مقتطفات من حفل المطربة التونسية غالية بن علي ووصلات من إيقاع الدربوكة... لقد جعلت المخرجة ليلى بوزيد من الموسيقى مرآة لأعماق البطل «أحمد» فنفذت إلى باطن إحساسه وفضحت حقيقة مشاعره وكشفت ما لم تقله الكلمات عن الصراع المرير بين الحب والخوف، الرغبة والكبت...
مثلما كانت الموسيقى عنصر ثراء وجمال، فلا شيء يمرّ على شاشة فيلم «مجنون فرح» دون مبرر ودون رسالة... لقد حرصت المخرجة ليلى بوزيد على انتقاء مشاهدها وتوظيف فضاء التصوير بكثير من الذكاء والعمق. فإذا بالباب الموصد انعكاس لشخصية البطل المنغلقة والمنهكة وإذا بالشباك المفتوح يشير إلى التحرر والانفتاح... وبين هذا وذاك تتالت مشاهد الفيلم في مراوحة بين عتمة ونور، ظلام وضوء مع جمالية عالية في الصورة دون مبالغة أو تكلف.
في فيلم «مجنون فرح» طرافة في الطرح وجرأة في القول تؤهلانه للمنافسة بقوة على التانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية. فهل سيقود «مجنون فرح» المخرجة ليلى بوزيد إلى منصة التتويج من جديد؟