وهم من يحترقون كالشموع لينيروا عتمة الروح والجسد والوجود... وبالرغم من هذا كلّه، فهم المنسيون والمهمشون والمضطهدون من الحكومات والمجتمعات والزمن ! إنهم الفنانون الذين يتم تجاهلهم كأنهم لم يكونوا بمجرد ابتعادهم عن الأضواء في انعدام لأبسط حقوقهم وكرامتهم...
من حلقة إلى أخرى، لا يزال مسلسل «حرقة» يحصد الإعجاب ويدير الرقاب بفضل حرفية فريقه الفني والتقني... ومن الزوايا الذكية التي تطرق إليها المخرج الأسعد الوسلاتي هي تسليطه الضوء على وضعية الفنان في تونس.
«حلاوة» حضور عبد اللطيف خير الدين في «حرقة»
من المفاجآت الرائعة في مسلسل «حرقة « ترشيح الفنان القدير عبد اللطيف خير الدين إلى لعب دور «خمّيس» ذلك الكفيف (أو من يدّعي العمى) الذي يفضل بدوره ركوب قارب الموت على البقاء في بلاد لا تحترمه ولا تهتم بأمره... وكان «خميّس» أو «خمّوس» كما يناديه رفاقه في هذه الرحلة الخطرة من الشخصيات الجذابة في المسلسل التي حظيت بقبول وإعجاب المتفرجين. كان حضور عبد اللطيف خير الدين حتى وإن كان موجزا بمثابة قطعة السكر التي أضفت حلاوة على الحلقات، وبمثابة قطعة الحلوى التي خففت من مرارة الحكايا الموجعة والمصائر المجهولة. في نوع من الكوميديا الطريفة والذكية، نجح «خمّوس» في انتزاع البسمة من وجوه حائرة وحزينة بسبب قصص المسلسل الحزينة.
يحسب للمخرج الأسعد الوسلاتي الانتصار إلى أهل المسرح والفنانين الكبار وكذلك المواهب الصاعدة الجديرة بفضل موهبتها أن تظهر على الشاشة ولا شيء غير الموهبة! وقد أحسن مخرج «حرقة» الاختيار في انتقائه للفنان عبد اللطيف خير الدين صاحب المسيرة الغزيرة في المسرح والتلفزيون والإذاعة والسينما... وعسى أن ينسج على دربه بقية المخرجين فيلتفتون إلى أسماء كبيرة تحدث الفارق حين تقف أمام الكاميرا ولا يحيلون على التقاعد المبكر أسماء كبيرة أعطت من دمها وروحها للفن دون أن تسأل عن مقابل !
في حلقة قبل البارحة، مرّر المخرج الأسعد الوسلاتي رسالة قوية في مشهد خاطف عن وضعية الفنان في تونس التي يندى لها الجبين ! فليس «خمّوس» سوى فنان مسرحي وعرائسي أضحك عشرات الأطفال ونشر ثقافة الحب والجمال في كل مكان لكنّه في النهاية واجه النكران والاستغناء عن خدماته... وليست هذه الرسالة سوى إشارة إلى كل من يهمه الأمر بأن الفنان يحتاج منا رد الجميل و إيفائه حقوقه المعنوية والمادية بعد أن احترق كالشمعة ليضحكنا ويسعدنا ويملأ حياتنا بالفن والحياة.
حمزة بن داود من فارس المسارح إلى بائع «الملسوقة»
«أنا فنان، أنا مبدع، أنا مسرحي... أنا الذي شرب لوح المسرح من جسدي» هكذا صرخ الفنان حمزة بن داود مصححا موقعه في المجتمع ومدافعا عن حقه في العيش كما يليق بفنان وهب عمره للفن والمسرح والحياة.
كانت للفنان حمزة بن داود صولات وجولات على أركاح تونس في أدوار لا تنسى وهو الذي وصف بـ»أيقونة المسرح في قفصة»، كما ساهم في بعث عديد التظاهرات الثقافية على غرار «مهرجان الفرجة الحيّة»... وبعد إحالته على شرف المهنة وتوقف العروض المسرحية بسبب الكورونا، لم يشأ هذا الفنان الوقوف على عتبة الوزارة سائلا المعونة أو نثر الشكوى في كل مكان استدرارا للعطف والشفقة بل اتخذ له في السوق المركزية بقفصة عنوانا ومكانا ومهنة متواضعة تقيه ذل السؤال ومرارة الاحتياج.
ولولا تفطن الشاعر رياض الشرايطي إلى هذا الفنان وهو يبيع «الملسوقة» بعد أن كان يجوب المسارح في ما مضى... فالتقط له صورة مؤثرة ومعبّرة، لبقي حمزة بن داود على ما هو عليه من معاناة وشقاء !
بمجرد أن جالت هذه الصورة المخجلة على مواقع التواصل الاجتماعي ، حتى سارعت وزارة الشؤون الثقافية بصرف منحة للفنان حمزة بن داود إلى جانب التعهد بصرف منحة استثنائية شهرية. كما أعربت تعاونية الفنانين والمبدعين والتقنيين في المجال الثقافي عن تمتيع الفنان حمزة بن داود بخدمات التأمين الصحي.
ليس الفنان حمزة داود أول فنان يواجه الخصاصة وضيق الحال في تونس ولن يكون الأخير طالما أن قانون الفنان والمهن الفنية لا يزال متعثرا لدى مجلس النواب، وطالما أن الحكومات المتعاقبة لا تحترم الفنان ولا تنزله في المنزلة التي يستحقها.
لا شك أن مثل «خمّوس» في مسلسل «حرقة» ومثل حمزة بن داود في قفصة عشرات الفنانات والفنانين ممن يسترجعون أمجاد الأمس ويذرفون الدموع على بسبب التهميش والتنكر لهم... لكن لا يجرؤون على البوح أو الشكوى حفاظا على كرامتهم... ولا شك أن الكورونا فقّرت العشرات والعشرات ممن يمتهنون مختلف الفنون وأحالتهم على البطالة والخصاصة. فهل من حكومة، وهل من وزارة تنصف فنانيها ومثقفيها دون أن يوشوش في أذنها أحدهم من أجل التفاتة عابرة لفلان أوعلاّن في كل مرة ينكشف فيها المستور عن حال أهل الفن في تونس؟
من سوق قفصة إلى مسلسل «حرقة»: عبد اللطيف خير الدين يثأر من تهميش الفنان في تونس
- بقلم ليلى بورقعة
- 09:41 27/04/2021
- 1211 عدد المشاهدات
هم من يضيئون الحياة بالألوان وفوانيس الأمل، وهم من يزرعون ثقافة الخير والجمال والحب في كل زمان ومكان،