وعمق منطلقاته ومبادئه ودفاعه عن توجهات تقدمية وعلمانية وعادلة. .. فإن تأثيره في التحولات المجتمعية لم يكن قويا، أما بعد الثورة فقد انحسر حضوره في البرلمان وفي مواقع القرار.
في إحياء مائوية النشاط الشيوعي في تونس (1921 - 2021) ينظم مخبر التراث بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة ومؤسسة روزا لوكسمبورغ بتونس ندوة تاريخية دولية قصد الوقوف عند لبنات تأسيس الحركة الشيوعية في الماضي والتعريج على محطاتها وفلسفتها واستشراف أفق اليسار التونسي في المستقبل.
تفكير جماعي في تجديد الوسائل والمضامين
يأتي إحياء مرور قرن على نشأة الحركة الشيوعية في البلاد التونسية بفضل مبادرة العميد السابق ومدير مخبر التراث بكلية الآداب والفنون والإنسانيات بجامعة منوبة الحبيب القزدغلي، والذي تقدم في شهر جويلية 2020 بمقترح لمشروع أكاديمي إلى مكتب التعاون الأكاديمي لـ«مؤسسة روزا لوكسمبورغ» بتونس يتعلق بإحياء الذكرى المأوية لانطلاق النشاط الشيوعي بتونس (مارس 1921- مارس 2021). وقد حظي مقترح الدكتور حبيب القزذغلي بالموافقة والتأييد وتم الاتفاق بين الطرفين على إنجاز هذا البرنامج في إطار الانفتاح والتعاون مع عدد من الجمعيات والشخصيات العلمية المهتمة بتاريخ الحركة الشيوعية وتاريخ اليسار عموما في تونس المعاصر .
بمناسبة ذكرى مرور مائة سنة على بعث أول نواة شيوعية في البلاد التونسية في 27 مارس من سنة 1921 في مدينة فري فيل (منزل بورقيبة حاليا )، يهدف هذا المشروع إلى «تجميع الوثائق المكتوبة والشهادات الشفوية للنظر والدراسة والبحث الهادئ والرصين في مختلف التجارب التي ظهرت في تونس خلال المائة سنة الماضية. كما يطمح البرنامج في أن يكون هذا الإحياء الأكاديمي منطلقا للتفكير الجماعي في مستقبل العمل الاجتماعي واليساري وتجديد وسائله ومضامينه وفقا لمتطلبات الأوضاع الجديدة والأفق الرحبة التي فتحتها الثورة التونسية».
ندوة تاريخية دولية للتمحيص والتقييم والاستشراف
ضمن برنامج متنوع وثري تسعى الندوة التاريخية الدولية إلى التطرق إلى كل مفاصل الحركة الشيوعية وتمظهراتها في شتى مجالات الحياة والعلاقات المحلية والدولية بمناسبة مرور 100 سنة على بعث أول نواة شيوعية في تونس. على امتداد أيام 23 و24 و25 و26 مارس 2021 وفي برمجة لحوالي 10 جلسات علمية مشفوعة بالنقاش في مدينة الثقافة، تقترح هذه الندوة الدولية جملة من المحاور والمواضيع المهمة والقيّمة على غرار: بدايات الحركة الشيوعية والنضال من أجل الاستقلال، الحركة الوطنية والتحالفات الإقليمية والدولية، روافد اليسار التونسي من التنافس إلى ضرورة التعايش، اليسار والمشاركة السياسية للمرأة، اليسار وقضايا التنمية والديمقراطية، بين معاداة الاستعمار والجبهة العالمية لمعاداة الفاشية...
وتتيح الندوة العلمية الدولية دراسة الأنشطة الشيوعية بالبلاد التونسية (1921-2021) وفق المناهج العلمية المتعارف عليها في حقل البحث التاريخي الأكاديمي. وذلك بهدف «الإسهام في تأصيل البحث في تاريخ الحركة الشيوعية والعمالية واليسارية عموما كمجال بحث تاريخي قائم الذات يرتكز على مصادر تاريخية متنوعة ومتعددة ولا تقتصر فقط على أدبيات هذه الأحزاب والمنظمات أو الوثائق التي أنتجتها الدوائر المعادية للحركة الشيوعية (البوليس والإدارة في فترة الفترة الاستعمارية أو وثائق الأمن والصحافة الموجهة في فترة الدولة الوطنية). كما ستكون هذه الندوة العلمية مناسبة لتجديد المقاربات والمناهج لمزيد معرفة هذا التراث بكل مكوناته وتعقيداته وتفادي الأحكام والإسقاطات.
إن تفتح الندوة العلمية الدولية أبوابها لكل المهتمين لمتابعة جلساتها وحواراتها سواء حضوريا أو عن بعد، فإنه سيتم نشر محتوى كل هذه الجلسات والمداخلات العلمية في كتاب جماعي تحت إشراف اللجنة العلمية. ولا شك أن هذا الكتاب سيكون مرجعا لكل الباحثين والمهتمين وتوثيقا للحراك الشيوعي التونسي في بحوث علمية بحتة في منأى عن التجاذبات والأجندات...
أفلام وكتب عن اليسار تقاوم النسيان
لا يقتصر إحياء مائوية النشاط الشيوعي بالبلاد التونسية على تنظيم ندوة علمية دولية بل تمّ الانفتاح على مختلف الفنون التي يتقاطع فيها حضور الحركات الشيوعية واليسارية. وفي هذا السياق تم الاتفاق مع المكتبة السينمائية بمدينة الثقافة على عرض مجموعة من الأفلام السينمائية التونسية والعالمية ذات الصلة من بينها: فلم «صفائح الذهب» للنوري بوزيد وفلم «أولاد لينين» لنادية الفاني وفلم «قرن بياتريس» وفلم «أكتوبر» لسرقاي ايزنشتاين ... وذلك طيلة أمسيات أيام الندوة العلمية.
وبالتزامن مع أشغال الندوة العلمية الدولية، تحتضن مدينة الثقافة معرضا وثائقيا يتضمن صورا ووثائق ونسخ من الصحف المنظمات والأحزاب التي نشطت بتونس في فترات مختلفة واعتبرت نفسها لفترة من تاريخها ذات علاقة بالتراث الشيوعي واليساري عامة.
من بين محاور مشروع إحياء مائوية النشاط الشيوعي في تونس تسجيل شهادات وسيَر لعدد من نشطاء الحركة الشيوعية من أجل نفض الغبار عن ذاكرة مهمشة ومنسية وبعيدة عن الأضواء من طرف السردية الرسمية. وذلك قصد الإسهام في «تكوين رصيد ثري ومتنوع من الشهادات الشفوية حول تاريخ الحركات الشيوعية بتونس، ودعم رصيد مراكز الأرشيف والتوثيق، والمساعدة على دفع الدراسات والبحوث التاريخية التي هي بصدد الانجاز أو تلك التي ستتم في المستقبل».
ولأن الكتابة والتدوين هي شهادة ضد النسيان وتوثيق للذاكرة والهوية، فقد تم الاتفاق بين مدير مخبر البحوث حول التراث حبيب القزدغلي ومسؤولة مكتب التعاون الأكاديمي لمؤسسة روزا لوكسمبورغ بتونس نادية الورغمي على التعاون لنشر دراسات جديدة بمناسبة إحياء مائوية النشاط الشيوعي في تونس. وكانت أولى ثمرات هذا التعاون إصدار كتاب «تراجم نشطاء الحركة الشيوعية بتونس في زمن الاستعمار الفرنسي وبدايات عهد الاستقلال 1921-1963» للمؤلف الحبيب رمضان عن دار محمد علي للنشر. على أن يتم في مرحلة لاحقة انجاز كتاب ثان يتناول تراجم النشطاء اليساريين من مختلف التجارب والأحزاب. كما ينتظر أن يتم اغتنام هذه المناسبة لنشر أعمال فردية حول جوانب من تاريخ النضال الاجتماعي والسياسي في تونس خلال المائة سنة الماضية.