التي نعيشها اليوم، من الذاكرة وقصصها ولدت الرواية المشحونة بالحب والخوف ، ذاكرة محمد بوعود تحمل القراء إلى «الوديان» تلك القرية البعيدة عن المركز، القرية التي لمع نجمها لتصبح عاصمة «الدخلة» (الوطن القبلي) ثم انطفأت فجأة ومن الحديث عن القرية يتطرق إلى الاستعمار الفرنسي و النزول الألماني في الوديان والمجاعة والعديد من المشاكل التي عرفتها الإيالة التونسية والوديان بالأخص.
الرواية عالم من وجع وحنين، تستدرج القارئ إليها، تقف به على سورها شاهدا على مكان خاص وزمان أكثر خصوصية، فلا هو طرف في الأحداث ولا هو غريب عنها، ولا هو مشارك فيها ولا هو بريء منها، هكذا يفرض السارد على المتلقّى دوره مستفيدا من خبرة طويلة في التعاطي مع القارئ كما قدمتها سعدية بن سالم و»طلوع الروح» من منشورات نادي الصحافة وهي دار نشر خاصة بالاعلاميين.
حديث الذاكرة
تمتزج الذاكرة بالمكان والشخصيات، بل تصبح الشخصية عنوانا لتدفق الاحداث، من الذاكرة الشفوية لـ»مينة الوديان» تبدأ أحداث الرواية التي يصنعها محمد بوعود بكل دقة وتشويق، الحدث الأساسي في الرواية «كان دويا هائلا ذاك الذي صاحب خروج الطلقة الغادرة من الماسورة، مزق صوت الطلقة سكون المكان، ومزق بارودها الحنجرة» صوت إطلاق النار قرب «السانترا» السجن القديم تبنى عليه احداث الرواية.
حدث واحد يعتمده السارد لبناء قصته، ثم يستعمل أسلوبه التشويقي فتتشعب الأحداث عبر شخصيتين رئيسيتين هما «سي الهمو المروكي» و»سيدي حمّة» فأثناء تحاملهما لاكتشاف سرّ الصوت وسبب الصراخ تنفلق الذاكرة بالحكايات، حكايتهما الشخصية التي ولدت مع «مينة الوديان» فكلاهما عرف المدينة صغيرا، عرفها في مرحلة البناء ثم الازدهار فالتقهقر والتراجع.
يعتمد السارد «ثنية او مسرب» وسيلة للاسترجاع، عوض القطار او السيارة التي ارتبطت عادة بالاسترجاع في الرواية يتجه محمد بوعود الى طريق غير مبلط، طريق المهمشين والمنسيين، لتمر عبره الشخصيات وتتجنب السقوط في الطين او الوحل حدّ الوصول الى «السانترا» التي أصبحت فضاء للسوق المركزية، اختيار الطريق لم يات عبثا بل هو يرمز الى واقع الوديان بعد تقهقرها واغلاق «المينة» «انتهت المينة وانتهى زمانها، ولم تبق لهم الا الذكريات والوحدة وبقايا مصالح صغيرة يقتاتون منها في انتظار موت قد يأتي في أي لحظة».
الطريق نقل لحال المدينة التي كانت قبلة للطليان والفرنسيس، المدينة التي عرفت قاعات السينما وحركية القطارات «لم يبق في الوديان شيء على حاله، زالت معالم كثيرة وانهارت أسقف، اخذ الراحلون معهم تقريبا كل شيء، لم يتركوا الا رسما متهالكا لمدينة تنحدر بسرعة نحو النهاية، أغلقت المدارس وصالات السينما، اخذ حرفيو وتجار اليهود ومالطة معهم كل ما يصلح لإعادة البناء مرة أخرى في مدينة أخرى» (ص110).
من صندوق الذكريات تنطلق أحداث الرواية لتحمل القارئ في رحلة جغرافية وزمانية تجوب به الوديان المدينة الجميلة التي كانت «عاصمة الدخلة» أثناء افتتاح المنجم وأصبحت اليوم بقايا بناءات ومنشآت بعد ان غادرها الفرنسيون والطليان والمهندسون، تنساب الذكريات لتنقل واقع المدينة بين الماضي والحاضر كما عرفه «سيدي حمة» و»همو المروكي» ومن الذاكرة ايضا يخبر الكاتب قراءه انّ الفقر والبؤس لم يمس الوديان وحدها بل شمل كل عمال المينة في اصقاع تونس «لم يمكثا طويلا في المتلوي، بضعة ايام كانت كافية ليعاين السي همو الكثير من معاناة البشر ومعاني البؤس والشقاء الذي يكابده عمال من مختلف اللهجات والجهات».
الهامش يصنع الاحداث ويحرك التاريخ
«طلوع الروح» هو اسم الرواية التي يتجول من خلالها محمد بوعود في خبايا الذاكرة الجماعية للوديان في الوطن القبلي الوديان التي يصفها بالقول «تنتصب الوديان على مرتفع تلي منيع،محاط بأودية من كل الجهات، يحتضنها جبل سيدي الرحمان من الجنوب وتتسامق في خيلاء على كل القرى والبلديات المحيطة، لا تعرف السكينة ولا تخف فيها حركة العمال».
«طلوع الروح» هو الحدث الرئيسي الذي بنيت عليه أحداث الرواية، وبين اسم الرواية وأحوال المدينة وأحداثها تجانس وتطابق فكما تطلع الروح البشرية بفعل القتل وكما طلعت روح ابن عبد العالي بفعل الرصاصة كذلك طلعت روح المدينة بسبب تراجع قيمة «الفحم الاسود» و تأثير الحرب العالمية على المكان وصراع الحلفاء والمحور « كان ذلك عام خمسة واربعين، عام الالمان كما اصطلح الناس فيما بعد، سيكمنون في الوديان وينتظرون حتى تحين الفرصة ليعبروا جبل سيدي عبد الرحمان نحو سيدي داوود وجزيرة زمرة، حين دخلوا مينة الوديان، فرت من أمامهم الحامية الفرنسية الصغيرة».
في الرواية تطابق بين وجع المكان ووجع الشخصيات فـ»الوديان» التي عاشت طلوع الروح بعد قصف القوات الأمريكية لكل المواقع «لم يمض على وصول الألمان إلا بضعة أشهر حين بدا إنزال الحلفاء على شواطئ تونس، وبدأ الطيران يقصف المينة» وكان المدينة كما سيدي حمة كتب عليها الوجع الأبدي فبعد خروج القوات الألمانية وعودة المستعمر الفرنسي عانت المدينة اكثر اذ «خفّت الاشغال الى ادنى مستوياتها، يستخرجون الفحم ويكدسونه في اكداس، تحولت الى جبال دون أن يأتي القطار لتحميله، دمرت الحرب المحطة ومجمع التحويل وارصفة الشحن، الشركة لن تعود وان هناك قرارا سيصدر بغلق مينة الوديان».
«طلوع الروح» حديث الذاكرة والوجع، استرجاع لقوة مدينة وجمال مكان فقد سحره تدريجيا، غوص في الذاكرة الجماعية التي يتشارك فيها الجميع وإشارات إلى معاناة بسبب أزمات عالمية مثل ازمة الجوع والجفاف»كان عام قحط وجوع،عام الدقيق المر، العام الذي نفذت فيه كل المؤونة، وخلت المتاجر، وجفّ الزرع والضّرع، غرزت فيه حتى اثداء النساء ولم تعد تدرّ حليبا للرضع، كانت الازمة عامة» كل هذا الوجع المنساب من ذاكرة سيدي حمة وهموا المروكي هو وجع المدينة المنسية التي عاش اهلها هول الاستعمار «شنّ المستعمر حملة شرسة على دخلة المعاوين، عرفت فيما بعد بحملة تازركة، قلب المنطقة حجرا حجرا، في بحث مجنون عن مجموعات الفلاقة التي بدات تؤلم جيش الفرنسيس وتوجعه».
يمتزج وجع المدينة بوجع اهلها، يقرب السارد شخصياته ويضعها تحت مجهر الكتابة، يستمع الى حكايتها وينصت الى ذكرياتها ويصغي من خلالها الى وجع المكان، في «طلوع الروح» كل الشخصيات هي من الهامش، المهمشون هم صناع القصة والحكايات، هم الذين يكتبون تاريخ الوديان ويحفظونه ويحدثون به الاجيال الجديدة لتكون الكتابة بمثابة وعاء للذاكرة.
كتاب «طلوع الروح» لمحمد بوعود: انتصار للهامش والمهمشين الذين يكتبون تاريخ المدن
- بقلم مفيدة خليل
- 09:32 15/03/2021
- 1197 عدد المشاهدات
الذاكرة جزء من الشخصية وذاكرة المدن والقرى جزء من الحركية الجغرافية والسياسية والاقتصادية والثقافية