متنافرة كقطبي المغناطيس، ووحده الجسد كان أرض لقاء بين فكرين يستحيل بينهما الاتصال والتواصل. في «الهربة» أمسك المخرج غازي الزغباني بكاميرا الجرأة واقتحم عالم المواخير من مدخل جديد وزاوية مغايرة...لنشاهد بعدسته ما لم نره من قبل عن يوميات بائعة الهوى وعقلية السلفي الإرهابي...
بعد أن نجح على الركح بصفته مخرجا مسرحيا وعرفته شاشة السينما كممثل، أقدم غازي الزغباني على إخراج أول فلم في مسيرته الفنية بعنوان «الهربة». وبعد تقديم عرض خاص بالصحافة بمناسبة أيام قرطاج السينمائية، سيكون هذا الفلم الروائي الطويل جاهزا للعرض في القاعات التونسية ابتداء من يوم 24 ديسمبر 2020.
دعارة أو إرهاب.. معاناة واحدة
في أحداث واقعية ووقائع حقيقية، حاول المتطرفون دينيا - سيما بعد ثورة 2011- اقتحام المواخير وطرد المومسات بدعوى غلق دور الدعارة. أما في فلم «الهربة»، فقد كان المتشدد الديني (غازي الزغباني) في حاجة إلى حماية بائعة الهوى(نادية بوستة). فبعد هروبه من ملاحقة الشرطة في أزقة المدينة العتيقة وجد نفسه وجها لوجه مع مومس تحت سقف واحد وحجرة مغلقة، فإلى أين المفر؟ دون شروط قبلت المرأة شبه العارية إيواء الشاب صاحب اللحية غير المهذبة والقميص الطويل في مغامرة خطرة. أما هذا الرجل الذي طلب اللجوء والأمان فقد لعن حظه ألف مرة الذي أوصله إلى المكان «المدنس» واستغفر ربه عشرات المرات لوجوده في خلوة مع «عاهرة» دون أن يجرؤ على النظر إلى الجسد العاري أمامه.
عند دخول حريف (محمد قريع) إلى غرفة المومس طلبا لنشوة مدفوعة الأجر وبحثا عن لذة مشروطة بثمن، اختبأ المتشدد الديني تحت السرير ليطيل هناك البقاء حتى بعد مغادرة الزبون خوفا من إغواء جسد الأنثى و الوقوع في المحظور ... بعد أن ملّ الانتظار ساعات طويلة وأنهكه التعب والعرق والجوع، خرج الشاب من مخبئه غير المريح، ليواجه مصيره المحتوم !
بمنتهى الذكاء وظّف المخرج غازي الزغباني رمزية التفاحة في إغواء حواء لآدم، لتكون التفاحة هي الطعم الذي ابتلعه الإرهابي من يد المومس فخرج من «جحيم» الكبت ليدخل «جنة» المصالحة مع الجسد !
في أكثر الأمكنة دنسا من منظور المتشدد دينيا ومع أكثر الأعداء خطرا في ذهن المومس، كان اللقاء الجنسي بين الاثنين بمثابة التطهير الذي حرّر الشاب من عقدة الجسد وأعاد إلى المرأة إحساس المتعة...فتصالح كل منهما مع الذات في لحظة تحرّر من سيطرة الآخر وكسر لقيود «الحلال والحرام».
بائعة الهوى ... هوية مشروخة وجسد جريح !
في فلم «الهربة» لم تتجرّد المومس من ثيابها لمجرد بيع اللذة، بل كان في عريها كسر للقالب النمطي الذي حشرت فيه هذه الشخصية المعقدة في السينما والأدب والحياة.
بعيدا عن الكليشيهات والصور السطحية للمومس، أزال المخرج غازي الزغباني الحجب عن العالم الداخلي لبائعة الهوى ونفذ إلى أعماق هذه المرأة التي فقدت حتى الإحساس بجسدها المعروض للبيع في كل الأوقات وللجميع. لم يأت غازي الزغباني بالفتح المبين عند اقتحامه عالم المواخير وتصوير عدسة الكاميرا ليوميات نساء يبعن الجنس، لكن يحسب له التجديد في التعامل مع المومس بما هي قضية جسد محض يبحث عن المصالحة مع ذاته وسط انتحار عبثي وسأم بلا نهاية. هي مأساة مومس تبيع المتعة لكنها محرومة من الإحساس بها، ومعاناة امرأة تمتهن إثارة الشهوة ولكنها ممنوعة من إشباع رغبات جسدها كما يحلو لها... في «الهربة» جسد أنثوي جريج مثخن بأوجاعه اعتاد سجن المكان الثابت ومرور»عابري السرير» من كل صنف ولون !
دون مبالغة في التبرّج و التجمل، أبدعت الفنانة نادية بوستة في تقمص شخصية المومس بكثير من الصدق والإقناع في الأداء وبجرأة شجاعة في كسر «تابو» الجنس...
من أين أتت بطلة الفلم نادية بوستة بكل هذه الجرأة وهذه البراعة في لعب دور المومس؟ عن هذا السؤال أجابت «المغرب» بالقول: «لا أظن أن جمهور فلم «الهربة» سيجد في جرأة دوري استفزازا أو إسرافا لأن توظيف هذه الجرأة لم يكن اعتباطيا أو مجانيا بهدف الإثارة بل كان هدفه نقل تفاصيل يوميات المومس كما هي بهدف بعث رسائل معينة والدفاع عن جملة من القضايا...».
من مسرحية إلى فلم ... ما الذي تغيّر في «الهربة»؟
في «الهربة» تتعدد وجوه المغامرة سواء بإنتاج فلم طويل دون الحصول على دعم وزارة الشؤون الثقافية أو اعتماد تقنية «الويكلو» في التصوير والمراهنة على أحادية المكان والفضاء. في غرفة واحدة تدور كل أحداث الفلم من البداية إلى النهاية، مما وضع المخرج غازي الزغباني أمام الامتحان الصعب في شدّ الجمهور طيلة ساعة ونصف من الوقت. ويبدو أن فريق الفلم ككلّ قد كسب هذا الرهان بفضل عدة عوامل منها: النص الجيّد والمحكم لصاحبه حسن الميلي، والتصعيد المدروس على مستوى تطور الشخصيات، والأداء الرائع لأبطال الفلم دون استثناء.
على عكس المسرحية، أضاف المخرج غازي الزغباني في فلم «الهربة» مشهدا جديدا دون الخروج من حدود غرفة المومس بعد اعتمادها كفضاء أحادي للتصوير. في هذا المشهد القصير تظهر رانيا القابسي والأسعد بوصعيب كشخصيات مكملة لأدوار العاملين في المواخير. وربما كانت غاية المخرج إضفاء بعض التغيير لتجنب ملل الجمهور وكسر نمطية النسق الواحد الذي يتحرك على إيقاعه فلم «الهربة».
من خشبة الركح سنة 2018 إلى شاشة السينما سنة 2020، تحوّلت «الهربة» من مسرحية إلى فلم مع الحفاظ على أبطالها الرئيسيين الثلاث: نادية بوستة وغازي الزغباني محمد قريع، والإبقاء على الديكور ذاته والطرح نفسه.... عن هذا الخيار، قال مخرج وبطل «الهربة» غازي الزغباني: «لم يكن نجاح مسرحية «الهربة» هو الدافع إلى تحويلها إلى فلم، بل منذ البداية كنا عاقدين العزم على إنتاج «الهربة» في نسخة مسرحية ثم سينمائية كمشروع متكامل. صحيح أننا ننشد جماهيرية السينما لانتشار أكبر ومشاهدة أوسع لكننا نؤمن برسالة فنية ونراهن على تبليغ قضيّة...».
دون إرهاب ولا ترهيب، كان الحوار هو السلاح الذي هزمت به المومس رغم مستواها الدراسي المتواضع عقيدة المتشدد الديني خريج الجامعات. وبالكلام وحده نجحت في إقناعه بالتخلي عن مظهر الإرهابي ليخرج في نهاية الفلم من غرفة المومس وهو حليق الذقن. وقد يكون هذا الشاب قد تخلص من دمغجة عقيدة متطرّفة عند حلق شعر لحيته في ذاك المكان «المدنس» الذي وهبه سعادة مفقودة عثر عليها ذات «هربة».