وتلك النظرة تعنى الود وتلك تعنى التحذير. وتلك تنبئ عن ضغينة.. كم من أوقات أنفقتها لأدرك البديهيات.. ومازلت أتهجّى بعض مفردات الأبجدية» هكذا يقول جمال الغيطاني، ولعلّ هذه الولادة الجديدة والحيوات المتعددة والمختلفة والمفارقة قد نعثر عليها بين دفتي كتاب وحضن رواية! وفي ضروب الرواية، غاص فرع رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت ليلامس أسئلة حارقة في الرواية العربية الحديثة من قبيل: كيف جسدت الرواية العربية ظاهرة العنف بمختلف أشكاله؟ كيف يتفاعل المرجعي(سياسة وتاريخا) والجمالي (تخييلا) في الرواية؟...
وقد صدر حديثا عن رابطة فرع رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت كتاب «التاريخ والسياسة والعنف في الرّواية العربيّة الحديثة» في تحرير ومراجعة لمحمد آيت ميهوب ومنية قارة بيبان، ليفكك شفرات الرواية العربية التي اِتسمت بتوظيف لافت للتاريخي والسياسي، إضافة إلى اِنشغالها بالعنف المستشري في الراهن العربي.
حصاد ملتقين عربيين حول الأسئلة الحارقة للرواية المعاصرة
في مقاربات نقدية وشهادات شيقة بإمضاء ثلّة من خيرة الكتاب والأكاديميين العرب، يأتي كتاب «التاريخ والسياسة والعنف في الرّواية العربيّة الحديثة» ثمرة حصاد دورتين من الملتقى الدولي للرواية العربية كان فرع رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت قد نظمهما سنتى 2015 و2017. وكان الملتقى الأول قد اهتم بالبعد «السياسي والتاريخي» في الرواية العربية الحديثة، في حين اهتم الثاني بظاهرة «العنف في الرواية العربية».
ويحسب لرابطة الكتاب الأحرار ببنزرت توثيق أعمال هذين الملتقين وحفظها من الضياع والاندثار لتكون مرجعا للباحثين والنقاد والمهتمين بفن الرواية. وتزداد القيمة الأدبية والمعرفية لهذا الأثر بفضل تحبير فصوله ومقاربته بأقلام رائعة وعالمة بخبايا الرواية من مبدعين وروائيين وأكاديميين من تونس والمغرب والجزائر وليبيا ومصر والأردن والعراق على غرار أحمد إبراهيـــم الفقيه وواسيني الأعرج وحسين حمودة وجليلة طريطر ومحمد آيت ميهوب وعبد القادر العليمي وفاطمة الأخضـر ومسعودة بوبكر....
في كامل الأناقة اللغوية والثقافة الموسوعية كما عهدناه دوما، قدّم رئيس رابطة الكتاب التونسيين الأحرار وعضو «بيت الحكمة» جلول عزونة كتاب «التاريخ والسياسة والعنف في الرّواية العربيّة الحديثة» بما يلي: إنّ الرواية، كجنس أدبي، طغى على غيره من الأجناس، حتّى لَقَّبوه بالجنس الإمبريالي المهيمن كهيمنة العولمة حاليّا على الدول والقارّات والشعوب والأفراد، فلجأ إليه الكاتب، يفرغ في الرواية كلّ ملاحظاته وتطلّعاته وأحلامه وكوابيسه وشطحاته وشذوذه. لذلك نظّم فرع رابطة الكتّاب الأحرار ببنزرت – هو محقّ في ذلك وموفّق- طيلة دورتين اثنتين، ملتقى دوليّا حول الرواية العربيّة وكيف عالجت مواضيع السياسة والتاريخ والعنف.وقد ساهم تداخل السياسة والتاريخ والعنف، منذ مأساة قابيل وهابيل، مرورًا بالملاحم الإنسانيّة الخالدة: قلقامش والإلياذة والأوديسيّة، وصولًا لرواية مسعودة بوبكّر وحفيظ قارة بيبان وواسيني الأعرج ومصطفى الكيلاني، والرواية الليبيّة والعراقيّة والمغربيّة في إبراز أهمية الصراع بين الرعب والأذى وشهوة الدم والصراع الصارخ بين الموت والحياة وعنف الشهوة والرغبة أي ذلك الصراع الدائم بين الخير والشرّ، و كيف أنّ الروائي – رغم الكمّ الهائل من الدمار والقتل والدم – استطاع استشراف المستقبل والتبشير بالأمل، ديدنه الفكر المستنير وحسّه المرهف الذّي يبقي الأبواب مشرّعة على النور والبهاء والجمال».
آثار التاريخ و تأثيرات السياسة في الرواية العربية
إلى أي حدّ أثر واقع الدمار والحروب في العالم العربي في مضامين الرواية؟ هل يمكن الإقرار بتحولات ما في بنية الروايات وأساليب السرد؟ هل يمكن للفن الروائي أن يواجه العنف ويقاومه؟ كانت هذه الأسئلة بعض المحاور التي اهتم بها كتاب «التاريخ والسياسة والعنف في الرّواية العربيّة الحديثة» بمساهمة نخبة من خيرة الكتاب العرب كما ورد في كلمة رئيسة فرع رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت حفيظة قارة بيبان في تأكيد لها على أن «الثقافة هي المنارة الحقيقية وعنوان تحضر الشعوب وهي التي تعري جراح الإنسان وتداويها...»
في الدورة التأسيسية لملتقى الرواية العربية في نوفمبر2015، فتحت رابطة الكتاب الأحرار ببنزرت ملف «التاريخي والسياسي في الرواية العربية» لما يشهده العالم العربي من عنف ودمار وحروب... وذلك باقتفاء أثر أهم الإستراتيجيات الخطابية المميزة لهذه الرواية ودورها في تحديد قيمتها الإبداعية وتشكيل دلالاتها وتلقي القارئ لها نظرا للحضور اللافت للتاريخي والسياسي في عدد من الروايات العربية الحديثة والجدل القائم بين مكوّنات الواقع ومكونات النص الأدبي والروائي.
وفي فلك هذا المدار، جاءت شهادات الحاضرين ومداخلات المحاضرين لترسم ملامح الرواية العربية «التي تَعمّق وعيُها بواقعها وبأسئلته الحارقة للدارس والقارئ والإنسان العربي عموما علّه يجد فيها جوهره الإنساني الطامح دوما للحرية، والحالم بعالم أفضل، والمستنير بما يقدمه له الإبداع الروائي من متعة ورؤى جديدة».
هل يمكن للرواية أن تكون عنيفة تجاه نفسها؟
في تتمة لأعمال ملتقاها الأول حول «التاريخي والسياسي في الرواية العربية»، سلطت الدورة الثانية من ملتقى الرواية العربية الضوء على مقاربة ظاهرة العنف في الرواية العربية الحديثة، وتبين أهم تشكلاته ودلالاته، واستقراء أساليب تناوله فنيا عبر طرح باقة من التساؤلات تسعى للإجابة عن كيفية تجسيد الرواية العربية الحديثة ظاهرة العنف بأشكاله المختلفة ومدى سعيها إلى تشريح دلالات العنف اجتماعيا ونفسيا وتحليل نتائجه وعدم الاكتفاء بمحاكاة الواقع...
في مقاربة بعنوان « كيف تقول الرواية العنف؟» للدكتور عبد القادر العليمي ومداخلة بعنوان «العنف في رواية العراء لحفيظة قارة بيبان» للدكتورة فاطمة الأخضر وشهادة للكاتب الجزائري واسيني الأعرج عن «العنف اليائس في زمن عربي شديد الحساسية» وغيرها من التدخلات القيّمة والشّيقة حاول ملتقى العنف في الرواية العربية تقديم الإجابات عن أسئلة كثيرة وتساؤلا ت حارقة لتجد الرواية نفسها في النهاية متهمة بالعنف تجاه نفسها عبر السؤال التالي:» هل يقتصر حضور العنف في الرواية على العنف المرجعي القائم في العالم الخارجي الذي يحيل عليه النص؟ أم هو عنف متجذر في بنية النص اللغوية والفنية متمكن من أساليب الكتابة نفسها؟ هل يمكن أن تكون الرواية عنيفة هي الأخرى تجاه نفسها وتجاه أنساق الكتابة؟»