ونسأل الله بلوغه، واليوم نتلقَّى التعازي برحيله، ونسأل الله قَبوله.
قد مضى هذا الشهر الكريم، وقد أحسن فيه أناسٌ وأساء آخرون، وهو شاهدٌ علينا أو لنا بما أودعناه من أعمال، شاهدٌ للمشمرين بصيامهم وقيامهم، وبرِّهم وإحسانهم، وشاهدٌ على المقصرين بغفلتهم وإعراضهم، وشحِّهم وعصيانهم، ولا ندري والله هل سندركه مرة أخرى، أو سيحُول بيننا وبينه هادمُ اللذات ومفرِّق الجماعات؟
إن ربَّكم شرع لكم في ختام شهركم شرائعَ، فاعلموها لتعملوا بها ولا تضيعوها، والأعمال بالخواتيم، ومن ذلك عباد الله إخراجُ زكاة الفطر؛ فهي فرضٌ على الصغير والكبير، والذكر والأنثى، والحرِّ والعبد من المسلمين، جاء في الصحيحين: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم فرَضَ زكاةَ الفطر صاعًا من غالب قوت البلد أو ما يعادله نقدا أدناه 1750 مليم على الذكر والأنثى، والصغير والكبير من المسلمين، وأمر بها أن تؤدَّى قبل خروج الناس إلى الصلاة.
إن الحكمة في زكاة الفطر مركبةٌ من أمرين:
الأول: يتعلَّق بالصائمين في شهر رمضان، وما عسى أن يكون قد شاب صيامَهم من اللغو والرفث، فجاءتْ زكاةُ الفطر في ختام الشهر لتَجبر ذلك كله، وتغسل ما قد يكون علق بالصائم مما يكدِّر صومَه، وينقص أجرَه.
الثاني: يتعلق بالمجتمع، وإشاعة المحبة والمسرة في جميع أنحائه، وخاصةً المساكينَ وأهل الحاجة فيه؛ وذلك أن العيد يومُ فرحٍ وسرور، فينبغي تعميمُ هذا الفرح والسرور ليشمل جميعَ فئات المجتمع، ومنها الفقراء والمساكين، ولن يدخل السرور إلى قلوبهم إلا إذا أعطاهم إخوانهم، وأشعروهم أن المجتمع يد واحدة؛ يتألم بعضه لألم الآخر، ويفرح له.
لزكاة الفطر وقتان:
وقتُ فضيلة، ووقت جواز، أما وقتُ الفضيلة، فهو صباح العيد قبل الصلاة؛ عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: «أمَر رسول الله صلى الله عليه وسلم بزكاة الفطر قبل خروج الناس إلى الصلاة»؛ رواه البخاري، وأما وقت الجواز، فهو قبل العيد بيوم أو يومين، ولا يجوز تأخيرها عن صلاة العيد، فإن أخِّرت فهي صدقةٌ من الصدقات.
زكاة الفطر يُخرِجها المرءُ عن نفسه، وعمَّن ينفِق عليه من الزوجات والأقارب والخدم، ويُستحَبُّ إخراجُها عن الحمل الذي في البطن ولا يجب، فإذا أخرج الصائم زكاتَه دفَعَها إلى فقراء البلد الذي هو فيه، ولا يرسلها لغير بلده متى ما كانت الحاجة لوجودها ماسة، ونصابُ تلك الزكاة الواجب إخراجها قرابة الكيلوين وأربعين جرامًا من غالب قوت البلد الذي هو فيه.
وإن مما شرعه لكم نبيُّكم عند ختام شهركم، ورؤيتكم هلال فطركم، أن تكبِّروا الله - تعالى - وتشكروه على ما منَّ به عليكم من الصيام والقيام؛ «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ...» الآية البقرة: 185، وصفةُ التكبير أن يقول المسلم: الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، الله أكبر الله أكبر، ولله الحمد، وهذه السُّنةُ، يجهر بها الرجال من غروب شمس ليلة العيد إلى الصلاة، وتُسِرُّ بها النساء؛ لأنهن مأمورات بالستر والإسرار بالصوت.
وإن من تمام ذِكر الله تعالى في ختام شهر الصيام:
الامتثالَ لأمر رسوله صلى الله عليه وسلم بأداء صلاة العيد، فقد أمر صلى الله عليه وسلم أمَّتَه رجالاً ونساء بأداء تلك الصلاة، حتى النساء اللاتي صلاتُهن في بيوتهن خيرٌ لهن، أُمرْنَ بالخروج لهذه الصلاة؛ قالتْ أم عطية رضي الله عنها: أمَرَنا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم أن نُخرِج في الفطر والأضحى العواتقَ والحُيَّض وذوات الخدور، فأما الحيض، فيعتزلن الصلاة، ويشهدن الخير ودعوة المسلمين، قلت: يا رسول الله، إحدانا لا يكون لها جلباب؟ قال: «لتُلبسها أختُها من جلبابها»؛ رواه مسلم.
لئن انقضى شهرُ الصيام، فإن زمن العمل لا ينقضي إلا بالموت، ولئن انقضتْ أيام صيام رمضان، فإن الصيام لا يزال مشروعًا ولله الحمد في كل وقت، ومن ذلك ما رغَّب فيه رسولُ الله صلى الله عليه وسلم من صيام أيام ستة من شوال؛ فإنها من جملة شكْر العبد لربِّه على توفيقه لصيام رمضان وقيامه، لكن مَن عليه قضاء من رمضان فليبادرْ إلى صيامه، ثم يُتبِعه بستٍّ من شوال؛ ليتحقق له بذلك إكمالُ الصيام المفروض وإتباعه بالست من شوال؛ قال صلى الله عليه وسلم: «من صام رمضان ثم أتبعه ستًّا من شوال، كان كصيام الدهر»؛ رواه مسلم.