الملامح والجغرافيا والتاريخ... فتطالعنا مرّة بوجه روماني وترنو إلينا مرة أخرى بعيون عربية وتصافحنا أحيانا بيد الصوفية. وبعد حوالي نصف قرن من الفن والحياة، جاء افتتاح الدورة 44 من مهرجان بومخلوف مختلفا واستثنائيا بعد أن اكتسب صفة «الدولي» وراهن على توسيع قاعدة جمهوره حتى تصدح الكاف العالية بالموسيقى والأغنيات... وصوت الخلود.
بعد أن خصصت وزارة الشؤون الثقافية اعتمادات إضافية لولاية الكاف، استحق مهرجان بومخلوف أن يضيئ شمعته 44 على نخب حدث تدويله وعلى أمل بعث باقة من المهرجانات في مختلف معتمديات الكاف التي تزخر بالتراث والآثار.
صابر الرباعي يطرب بالقديم ويحتفظ بالجديد
في حضرة مبنى «القصبة» كان الخشوع لهمسات الخيال ومعطيات التاريخ عن فصول مرّت من هنا، عن حكايات بطولة ومقاومة، عن روايات نعرفها ولا نعرفها يحتفظ بأسرارها الحصن المنيع... ولم يقطع هذا الاستسلام إلى وشوشة المعلم الأثري إلا التصفيق الحار الذي رافق ظهور الفنان صابر الرباعي الذي اختار أن تنطلق جولته بالمهرجانات الصيفية من على ركح افتتاح مهرجان بومخلوف في دورته الدولية الأولى. ولم يخف الفنان الملقب «أمير الطرب» سعادته بلقاء جمهور الكاف بعد غياب سنوات طويلة. ولئن قام صابر الرباعي بإطلاق ألبوم جديد مؤخرا فإنه لم يهد جمهور المهرجان إلا أغنية يتيمة من جديده باللهجة التونسية يقول مطلعها : «لي نحبه حزار و مغيار وعامل فيا... جنني ليل نهار... وعندي خباره يتبع فيا وأنا مشا في بالي مرتاح معاه... كخيالي يتبع فيا وين نمشي نراه... قولولوا قولولوا معيشني علي عصابي و بالغيرة هبلني وماعملتش حسابي...».
ويبدو أن الجمهور لم يستسغ كثيرا هذه الأغنية فلم يصفق لها بحرارة ولم يطلب إعادتها بل طلب أغنيات الفنان القديمة والمحبوبة على غرار سيدي منصور ويا أمي... هذا الطلب جاء بعد سؤال الفنان جمهوره ماذا يحب أن يسمع بصوته العذب الذي يبقى هبة من السماء ونعمة في الدنيا في زمن النشاز والعزف الشاذ. وقد أجاد صابر الرباعي كعادته غناء الكوكتال التونسي فتمايل الحضور نشوة ومتعة في حضرة طرب فن الزمن الجميل .
على الركح، لم يقف صابر الرباعي جامدا وثابتا وراء مصدحه بل كان خفيف الظل في التعامل مع فرقته الموسيقية ومغازلة جمهوره، كما كان سريع البديهة في الانتباه إلى رغبة جمهوره وبث أجواء الحماس والتفاعل في صفوف عشاق فنه... أما جديد «أمير الطرب» فربما احتفظ به إلى موعد حفله في اختتام مهرجان قرطاج الدولي وهو الذي لا يزال يرهب ركحه رغم سنوات الخبرة والنجاحات على حد تعبيره.
ثروة من الآثار مهملة ومنسية
في الكاف يتجاور المسجد والكنيسة والمعبد في تصافح صباحا ومساء وتسامح أديان يشهد على انفتاح المدينة منذ قديم الزمان وإيمانها بثقافة الحوار. فليس من الغريب أن يستقر بها الرومان ويسكنها البيزنطيون ويفتحها العرب... لتكون عبر حلقات التاريخ مهد الحضارات وأرض تعاقب الثقافات وعنوان تلاقح الشعوب.
وقد لحق مهرجان بومخلوف هذه السنة بركب قائمة المهرجانات الدولية، وتلك فرصة ثمينة للتعريف بالكاف التراث والآثار والترويج سياحيا لصورة «سيكا فينيريا» الساحرة وملهمة فينوس إلهة الحب والجمال... وفي بادرة تذكر فتشكر، تهب إدارة المهرجان ضيوف المهرجان جولة ممتعة وشيقة في المسلك الثقافي والسياحي بالمدينة رفقة دليل سياحي يبسط حكايات المعالم الأثرية رافعة الرأس في كبرياء والشامخة في خيلاء مدينة تفردت في مراكمة شواهد إسلامية ومسيحية ويهودية.
من القصبة الحسينية إلى البازيليك الروماني إلى المركب الاستشفائي الروماني... تسلب الكاف العالية اللّب والحواس ولكنها تترك في القلب حسرة وفي البال ألف سؤال وسؤال عن غياب التوظيف الجيد للثروة التاريخية في مسار التنمية لمدينة تستحق أن تكون وجهة سياحية بامتياز... وعلى سبيل الذكر لا الحصر، تتعدّد مواطن العلة والخلل في التعامل مع المعالم والمواقع على غرار بناءات تلاصق الآثار ومنازل تتربع وسط الكنوز المهملة، وأيضا معبد الغريبة المغلق والذي يحتاج إلى التهيئة والترميم والذي يعد الثالث في شمال إفريقيا بعد معبد عنابة في الجزائر ومعبد الغريبة بجربة، كذلك كان موقع «راس العين» ظمآنا للماء وعيون مائه بلا ماء!
وفي انتظار تفعيل المسالك الثقافية والسياحية التي تزخر بها كل ربوع الكاف على غرار المسلك النوميدي على خطى يوغرطة والمسلك البيئي ومسلك محمية صدين... تتواصل سهرات مهرجان بومخلوف الدولي في برمجة ترواح بين الموسيقي والمسرح والعروض الصوفية والشابية... وفاء لسيرة مدينة فنانة بالفطرة برعت في نسج خيوط الحياة أنشودة من الفنون ووشيجة من الخصب والأمل تربط الجبل بالجبل.