في بعض شؤون الثقافة: لا تُحـَرّكْ بـهِ لِسانَكَ لِتَعْجـَلَ بِـهِ

بقلم: وحيد السعفي
إنّ مِنَ الآياتِ ما نَفَى على الإنْسانِ الاضْطلاعَ بالقُرآنِ. مِنْ ذَلكَ: «لا تُحَرّك به لِسانَك لتَعْجَلَ بهِ،

إنَّ عَليْنا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ، فإذا قَرَأْناهُ فاتَّبِعْ قُرْآنَه، ثُمَّ إنَّ عَلينا بَيانَهُ» (القيامة 75/16-19). وقد بَيّنَ المُفسّرون أنّ مَوضوعَ التحريك والتعجيل والجمع والبيان هو القرآن. وبَيّنوا أنّ الخِطابَ مُوجّهٌ إلى مُحمّد النبيّ الرسول، يَلومه اللهُ على كَيفيّة قراءة القرآنَ. ثمّ يَنتصبُ الله وحدَه الكفيلَ بقراءةِ القُرآنِ وجَمْعِهِ وَحِفظِهِ وبَيانِهِ. فهذه الآياتُ تُبيّن، حَسب المفسّرين على اختلاف مذاهبهم، جَهل النبيّ بالقراءة والإقراء، وبالجمع والحفظ، وبالبيان والقرآن. فيُرفَعُ عَنهُ كُلُّ تَكليفٍ في ذلك. وتُرفَعُ عنه كلُّ مَسؤولية. ويَتولّى اللهُ الأمرَ، أمرَ القرآن، يَقرأهُ على مَنْ شاءَ، ويُقْرئُهُ مَنْ شاءَ، ويُثبّتهُ في صدر مَنْ شاء، ويُبيّنهُ لِمَنْ شاء، وما على النبيّ إلاّ أنْ يَتّبعَ قُرآنَه، أي القراءة التي أُقْرِئَها.

وتَفهمُ من هذا أن الدينَ ليس تِجارةً بَشريّةً، وأنّ القرآنَ ليس بضاعةً، وأنّ الإنسانَ حِلٌّ من هذه المسؤولية. فإذا كان النبيُّ لم يُعهَد إليه هذا العهدُ، فكيف بالإنسان الّذِي تَفْصلُه اليومَ عن ظُهور القرآن القُرونُ الطّويلةُ؟ فالإنسانُ، مَهما يَكُن الإنسانُ، لا يُمكنه أنْ يَنتصبَ مُدّعيا المَعرفة بقراءةِ القرآن ولا بإقراءِ القرآن. ومَع ذلك فقد انْتَصَبَ الباعةُ يَتّجرونَ بالقرآن. وانْتَصَبَ الدّعاةُ يَتباهى بَعضُهم على بَعض بامْتلاك المَعرفة التي تَشكّلتْ قُرآناً. وانْتَصَبَ الدجّالونَ يُكفّرونَ مَنْ يَقولُ بعَدم إمْكانِ تَعليمِ النّشْءِ القرآنَ.

وتَبارى في القُرآن المُتبارون. هؤلاء يُمثّلون أحزاباً تَدّعي المَدنيّةَ ولا مَدنيّةَ لها، مُجرّد قناع تَلبَسُه على الوجه، والقفا آخَرُ، يُحدّثُ بالتكفير والتهجير واستغلال الأطفال في مآربَ غَيرِ مآرب الأطفال. وهؤلاء مُتطرّفون في السّلفية والجهاد انقلبَ التعليمُ عندهم سَبيلاً إلى إعداد النشءِ للإرهاب والقتل والذوْد عَنْ حُرمة الشيخ. وهؤلاء يُمثّلون السّلطانَ الحاكمَ في البلاد، يَجْهرونَ بالخطاب الرسميّ في الدّين ويَدّعون أنّ الكَتاتيبَ غَيرُ مَدارس القرآن، ويَتباهوْن بأنّ عَددَ الكتابيب ضاهى عَددَ المَحاضن ورياض الأطفال أو فاقَها. وهؤلاء خَواصُّ يَدّعون الاستقلال عن الأحزاب والسلفية والإرهاب وحتى عن السلطان، وهم يَنخُرُ فيهم الداءُ الذي يَنْخُرُ في غيرهم، ويُؤسّسون للإرهاب في المستودعات وقاراجات المنازل التي اتّخذوها كَتاتيبَ أو مَدارسَ للقرآن.

سَمّها ما شِئتَ. سَمّها مَدارسَ للقرآن. سَمّها كَتاتيبَ. سَمّها رياضاً للدّين. سَمّها ما شِئتَ. فقط اعلَم أنّها بُؤَرٌ للفَساد الذي أصابَهم مُنذُ مَكّنَهم الدينُ مِنْ وَسيلةٍ للعيشِ، وسِلاحٍ للطّعنِ، وقَنابلَ بمِيقاتٍ، ومَكّنَهم، وهو الأخطرُ، من مُتْعة، فتَحرّشوا بالصّبية، فِتْياناً وفتياتٍ، ومارسوا الهَرسلةَ واللواطَ والنكاحَ.
سَمّها ما شِئتَ. ولكنْ اعلَمْ أنّ تَحتَ سَقفِ تلك المدارس، وفي ظَلام كَتاتيب الزوايا والمساجد، وفي انحناءات المُستودعات، تُنْتَهكُ حُرمةُ الطفولة المُقدّسة، ويَعبثُ العابثون بالصّبيّ والصّبيّة، ويَسلبون إلى الأبد الكَرامة والأنَفةَ والاعتدادَ بالنفس.

سَمّها ما شِئتَ. ولكنْ اعلَمْ أنّ الدّينَ، مهما يَكن الدينُ، يَمنحُ في الخَفاء سُلطاناً لا يَمنحُه غيره. وقد انتصبت في الغرب المَحاكمُ تُقاضي الذين داسوا قَداسةَ الطفولة، تُحاكم القساوسةَ وكبارَ الرهبان. فمَتى تنتصب في تونسَ المحاكم تُقاضي الذين داسوا قَداسةَ الطفولة، تُحاكم الشيوخَ وأشباه الشيوخ ومُعلّمي الكتاتيب ومُدرسي المستودعات؟

لا تَقُلْ إنَّ هَذا تعميمٌ لا يَصلحُ. لا تَقُلْ إنَّ هذا أمرٌ شاذٌّ لا يَحدثُ إلاّ مرّةً. لا تَقُلْ إنَّنا قد اتّخذنا الإجْراءاتِ في هذه المسألة الشاذّة، وأسْقطْنا الوالي، وأسْقطْنا المُعتمدَ، وأوْدَعْنا المسؤولين عن المدرسة السجنَ. لا تَقُلْ إنَّ مَجلسَ نُواب الشعب المُوقّر قد ناقش المسألة مرّتيْن. لا تَقُلْ إنَّ الإعلامَ تكلّمَ في الأمر بحرّيةٍ أسبوعاً كاملاً. لا تَقُلْ يَكفي، فقد انتَهى اليومَ الأمرُ.
لا تَقُلْ هذا، فالأمرُ ليس شاذًّا. الأمرُ شائعٌ في الكتاتيب ومَدارس القرآن ومُستودعات الظلام. الأمرُ شائعٌ مُنذ تكفّلَ الإنسان بتعليم القرآن، لأنّ القرآنَ يَمنحُ السلطانَ، فيتقمّص القائمُ على الدّين، مؤدّباً كان أو مُعلّماً أو مُدرّساً أو شَيخاً جليلاً، دورَ الله ويَحكمُ بأحكامه ويَفرضُ سُلطانه. ومن مَظاهر سُلطانه التي لم تَتغيّر منذ ألف ألف عام، التحرّشُ والهَرسلةُ واللواطُ والنكاحُ وأنْ تُقرَّبَ له القرابينُ البشرية، فيتمتّع ويَهنأ.

الأمرُ ليس شاذًّا في البلاد. وإذا أردتَ التأكّدَ من الأمر فاطْلبْ من أصحاب القرار إجراءَ استفتاء سرّي في الغرض، يُصرّح فيه المواطنون والمواطنات، شباباً وكهولاً وأطفالاً وشُيوخاً وأمواتاً في بيوت الشّهداء، إنْ كانوا تعرّضوا وهم أطفالٌ إلى التحرّشِ والهَرسلة، أو كانوا ضَحيّةَ اللواط أو النكاح في الكتاتيب ومَدارس القرآن والمُستودعات وغيرها من فَضاءات الاغتصاب.

لَعلّنا نُفضّلُ أنْ لا يَفتَضحَ أمرُنا ونَحن مَنْ نحن في البلاد.
نحنُ نُفضّلُ السكوتَ على الكلام. أليسَ السكوتُ من ذَهب؟ نَسكتُ ويَتواصلُ التعليمُ في الكَتاتيبِ ومَدارسِ القُرآن ومُستودعاتِ الظلام. نَسكتُ وتُوءَدُ مَدرسةَ الجُمهورية التي قامتْ بعد الاستقلال مَدرسةً وَحيدةً رَسميّةً في البلاد.

إنّ مَدرسةَ الجُمهورية مَدرسةٌ مَدنيّةٌ بالطّبع، لا تقبلُ المُزايدةَ والمُخاتلةَ والتّستُّر على التعليم الذي يُروّجُ للجهل والشعوذة والتقليد الذي لا ينفعُ. إنّ مَدرسةَ الجُمهورية مُهدّدةٌ اليومَ وقد اخْتلطتْ السياسةُ بالدين، واسْتُعملَ الدينُ مَطيّةً إلى الكراسي، واَسْتُعملَ تَعليمُ الدين مَطيّةً إلى إنشاء جيل يَنخرُ فيه الوَهمُ ويَحتفي بالماضي ويَنسى الحاضر فلا يَتجذّر في العصر.
إنّ مَدرسةَ الجُمهورية يجبُ أنْ تَكونَ واحدةً، تحتَ إِمْرَةِ وزارة مَدنيّة واحدة، لا أنْ تَكونَ قِسْمَةً بين وزارات لا علاقةَ لها بالمَدرسة المَدنية الواحدة. فما علاقةُ مَدرسةِ الجُمهورية بوزارة الشؤون الدينيّة التي عليها أنْ تتولّى الشؤون الدينية، إسلامية ويهودية ومسيحية وبهائيّة وحتى بوذية إنْ وُجدتْ، وتُشرفَ على المناسك، وتُحيّدَ دور العبادة، وتَسمعَ الشهادتيْن مِمّنْ أراد

أنْ يُسلمَ والأقانيمَ الثلاثة مِمّنْ أراد أنْ يَتنصّرَ، وهلمّ جرّا؟ وما علاقةُ مَدرسةِ الجُمهورية بوزارة المرأة والأسرة والطفولة وكبار السنّ التي يُوحي اسمُها الطويل بإثقالِ كاهل الوزيرة التي نُحبُّ، وبجَمعِها بين المتناقضات وأشتات المُعوزين والمُحتاجين إلى سَند، وقد جُعلت في الأصل للبحث عن السّبل الكفيلة بتحقيق المُساواة بين الرجل والمرأة؟
كذلك تَضيعُ مَدرسةُ الجُمهورية بين أهواء الأحزاب والوزارات ويَكثُرُ فيها الخطابُ والشقاق، ووزارةُ التربية غائبةٌ أو كالغائبة وهي التي جُعلتْ للاضْطلاع بمَدرسة الجُمهورية في كلّ مَرحلةٍ مِنْ مَراحل التربية.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115