أنّ امرأةً عَجوزاً من ذلك الزمن المُزدهِر، رَأتِ الناسَ خارجين يُهرولون وَراءَ شَيخٍ ذي وقارٍ ولِحيةٍ طَويلةٍ بيضاء، قاصدينَ ظَواهرَ المدينة. استوقفتْ مُهرولاً من المهرولين. سَألتْ: ما الخبر؟ قال: ألا تعلمين يا عَجوز أنّ شَيخَنا الجليل خارجٌ على الكفّار ومعه ألفُ حجّة على وجود الله. تَبسّمتْ تَبسُّمةً مَزهوّة. قالت: إذا كان شيخُكُمْ خارجاً على الكفّار ومعه ألفُ حُجّة على وجود الله، فمع الكفّار ألفُ حجّة على عدم وجود الله. وواصلت السبيل، إلى حَيثُ كانت تُريد، إلى امرأةٍ عَجوزٍ مثلها حَكيمة.
لم نَهتمَّ بصوت تِلكمُ الحَكيمة. قلنا: عجوزٌ لا تَصلحُ للخدمة. قلنا: لا نُولّي وجوهَهنا امرأة. واتّبعنا شيخَنا الجليل. وجنّدنا أنفُسَنا نَردُّ على الكفّار. وكُفّارُنا ليسوا كُفّاراً. مُجرّد مُخالفين. ولكنّ شيخَنا الجليل جَعلَهم كُفّاراً، فجعلْناهم كُفّاراً، نَسْجاً على المنوال. كَفّرنا الاعتزالَ والتشيّعَ والخوارجَ والصّرفة ومَن وَحّدَ الوجودَ وجَعلَ اللهَ تحت الجُبّة. كَفّرنا مَنْ قال بخَلقِ القُرآن. كفّرنا كلَّ مَنْ خالفنا الرأي، لأنّه جاهلٌ بالدين. ونحن نعلمُ ما الدين. فنَحنُ السُّنّةُ. ونَحنُ الجَماعةُ. ونَحنُ الفرقةُ الناجيةُ. ومالكيتُنا سُنّة، مثل كلّ مذهب في السُّنّة، تَكرهُ الاختلافَ وتُكرّسُ السُّنّة، حتى وإنْ كانت سَمحةً ووسطيّةً وهلمَّ جرّا.
ولكنّنا لم نستطع أنْ نُسكتَ صوتَ الكفّار. كفّرنا وشرّدنا وقتّلنا وجرّبنا معهم كلَّ أمرٍ. ولكنّ أصواتَهم لم تَصمت. ردّوا الودَّ بالودّ. ردّوا علينا كُفرَنا. قالوا فينا مِثلَ ما قُلنا فيهم: كُفّار. ورغمَ ما كان لنا من سلطانٍ، وما كان معنا من مالٍ، تواصل الصوتُ فيهم ولم يَصمتْ. تواصل يُوازي صوتَنا، وقد يعلو عليه ويَزْهو.
واصَلنا التكفيرَ. وواصلوا التكفيرَ. رشقناهم بالتُّهم. ورشقونا بالتُّهم. ما العمل؟ ما السبيل؟ لِمَ الفشل؟
لم نَفهمْ حِكمةَ المَرأة العجوز، ولم نُغيّر وجهَ التاريخ. قالتْ في جُملة قَصيرة: إنّ الدينَ لا يستقيمُ إلاّ في ظلّ نَفْي الدين، ووُجودَ الله لا يستقيمُ إلاّ في ظلّ نفي الوجود. قالتْ: لا تَجعلوا ثَقافتَكم من الدين، لأنّ الدين يقول الشيءَ، ويقول ضدّ ذلك الشيء، ويبقى مع ذلك ديناً. قالت باختصارٍ شديد: الثقافةُ في الدين خطابٌ وخطابٌ مُضادّ يتعارضان، يتقابلان، يتوازيان، ولكنّهما لا يلتقيان ولو شاء مَنْ شاء.
حَصرْنا الثقافةَ في الدين، فدارتْ على نفسها، يَردّ بعضُها على بَعضٍ، ومُنطلقاتُها واحدةٌ، كُلّها من الدين، وحَقيقتُها في ذاتها، لا تحتاج إلى دليل من خارجها. وقد ظلّت كذلك حتّى في العصر الحديث. لأنّها ثقافةُ نَصّ لا يقبلُ التغيير. فانحصرنا في النصّ. انظُرنا نُجلُّ النصَّ، قرآناً أو حديثاً أو فلسفةً إسلاميةً وعلمَ كلامٍ وفكراً وحتى فقهاً، رغم بُعد الشقّة. انظُرنا نُجلُّ السلفَ الصالحَ وما كتب. انظُرنا لا تَستقيمُ لنا مَقالة إلاّ في ظلّ الآية أو الحَديث أو قَول الصّحابيّ أو الأديب الكَاتب. والسلفُ الصالحُ والصّحابيُّ والأديبُ الكاتبُ كانوا تَكريساً للثقافة الدينية السائدة. وحتّى زَمنَ الازدهارِ والانفتاحِ والنَّهلِ من ثَقافةِ الفُرس أو اليُونان، تَحَصَّنَّا بحِصْنِ الدّينِ المَنيعِ وقُلنا: إذا خالفت الحكمةُ الشريعةَ وَجبَ التوفيق. والتوفيق أنْ تَغلبَ الشريعةُ الحكمةَ. فتوقّف الانفتاح، ولم تؤثّر الثقافة الأخرى في الثقافة السائدة إلاّ بمقدار بسيط. وتوقّفت بيت الحكمة. ولم يَسْرِ في الناس المَنطقُ. وتوقّف العلمُ، رياضياتٍ وفيزياءَ وكيمياءَ وطبًّا. توقّف كلّ شيء إلاّ النّهل من النصّ.
ثَقافتُنا مُجرّد ثَقافةٍ في الدين، تَدورُ على ذاتها، لا تتقدّم. ثقافتُنا ثقافةٌ في الخَتم. والختمُ أنْ تقول: الثقافةُ ماضٍ مَجيدٍ صافٍ، فَانْهَلْ من الماضي المجيد الصافي، ولا تُغيّر. فيه التشريعُ والناموسُ الأكبرُ. فيه الشعائرُ السمحةُ والخُضوعُ التامُّ والإسلامُ لذوي الأمر. فيه القصُّ الذي تشكّل جماليةً وحُسناً والدستورُ الذي يُنظّرُ للخلافة. فيه العلومُ السبعةُ التي تَفقهُ في الدنيا والآخرة.
وقد أثّر هذا فينا تأثيراً بليغاً حتّى باتَتْ مُحاولاتُ الخُروج من عِتقِ الثقافة الدينية مُجرّدَ قراءةٍ في الثقافة الدينية، تنحو إلى حصر نفسها في عبارة جميلة هي إعادةُ القراءة، انتشرت مع الدعوة إلى تحديث الفكر الديني. فقامت الأصواتُ تدعو إلى تجاوز الثقافة القديمة بإعادة القراءة فيها للوقوف على معنى النصّ فيها. إعادةُ القراءةِ ثقافةٌ تَسعَى إلى الخُروج من الدّين، ولكنّها تَتحرّكُ داخلَ الدّين، مشدودةً إلى الّدين. لذلك لا شيءَ تغيّر مذ قامت الدعوة إلى تحديث الفكر الديني، التي هي دعوةٌ إلى الخروج من الدين باستعمال نفس الوسائل الداعية إلى البقاء في الدين، أي بقراءة النصّ، قرآناً كان أو حديثاً أو فلسفةً أو علمَ كلامٍ أو أدباً وشعراً. والقرآنُ والحديثُ وعلوم القرآن وعلوم الدين وحتى الفلسفة الإسلامية والفكر وأصناف الأدب، جُعلَت للبقاء في الدين، حتى وإنْ قَرأتَها في ظلّ ما طَرأ من نَظرياتٍ حَديثةٍ في عُلوم اللسان، وعُلوم الإنسان، وحتى العُلوم الصّحيحة.
ولا أحدَ يَجرؤ ويقول: آن الأوان للخروج من ثقافةِ النصّ.
إنّ الباحثَ في النصّ، مهما يكن النصُّ، قارئٌ يبحثُ عن معنى، يَكتشفُ المعنى الذي يُناسبُ هواه. وغيره قارئٌ مثله يَكتشفُ من ذات النصّ ما يُناسبُ هواه. وشَتّان بين ما يُناسب هوى هذا وهوى ذاك. فيتبادلان التّهم بالجَهلِ وعَدمِ مَعرفةِ النصّ والبدعةِ والزّندقةِ والكُفرِ.
لذلك لا تَعجَبْ إذا رأيتنا نُنظّر لوجوب الحجاب من النصّ، ونُنظّر لعدم وجوبه من ذات النص. ولا تَعجبْ إذا رأيتنا نُنظّر للذّكَر مثل حظّ الأنثيَيْن في الميراث من النصّ، ونُنظّر للتسوية في الميراث من نفس النص. ولا تَعجَبْ إذا رأيتَ وزارةَ الشؤون الدينية تضع شُروطَ الكتابة وتَمنحُ الجائزة الوطنية في القصّة، وأيمّتها يُقيّمون الكُتب في خُطب الجمعة، ووزارة َالشؤون الثقافية تُقيمُ المهرجاناتِ احتفاءً بهذه الذكرى الدينية أو تلك، وتَدعمُ إنتاجَ الحَضراتِ، وتشتريها لتوزيعها على المندوبياتِ، وتُشجّعُ المُنشدين والمغنّين الذين اتّخذوا الدينَ إلهاماً ومَرتعاً.
لقد اختلطَ الدينُ والثقافةُ. والدينُ ثَقافةٌ تَنفي كُلَّ ثقافةٍ غَيرِها.