من الصحافة والإعلام، وبتجنّدِ بعض المثقفين وأشباه المثقّفين، صارت واقعاً لا شكّ فيه، وبركت في الشارع الطويل تُطاول النزل والبنوك، فالتفّ حولها من جديد أهلُها القدامى والأقارب، أولئك الذين شهدوها مشروعاً، وشهدوها منجزاً، في العهديْن القديم والجديد، قبل الثورة وبعدها. وقاموا يؤثّثون البيت الموروث. فما كان ذلك التأثيث؟
برامجُ كثيرة، نقف عند واحد منها، تكرّر فصار ألفاً: أيام قرطاج...
في البدء كانت أيام قرطاج السينمائية. وضع أسسها الطاهر شريعة. سيد القوم في هذا المجال. أنشأها نشأة فريدة من نوعها في إفريقيا والعالم العربي، فضاهت المهرجانات العريقة في الدول الكبرى. أعطاها من شهرته شهرةً، ومن تألّقه تألّقاً، فباتت مَقْصداً ومرجعاً. فأضفت على قرطاج تألّقاً من تألّقها. وأضفت على تونس شهرةً من شهرتها. ويمكن أنْ نقول ولا حَرَجَ إنّ أيّام قرطاج السينمائية، رغم العثرات وتغيّر الحال وتعاقب الإدارات ذوات الحاجات في النفوس، تعيش على ذلك الزاد الذي حصّلته ساعة نشأتها بفضل خصوصيتها وتميّز مشروعها وتبلور وظيفتها. وهي تمثّل وحدها اليوم نقطة البهاء في وجه الثقافة المغبرّ. وكان على أيام قرطاج السينمائية أنْ تجعل اسمها علامة مسجّلة كأشهر الأسماء، لتبقى وحدها الأيام. ولكنّها لم تفعل ذلك، فتسمّت باسمها الأسماء.
ثمّ كانت أيام قرطاج المسرحية. أرادت أنْ تنسج على منوال أيام قرطاج السينمائية. في المشروع والهدف والوظيفة. ولم تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات. وأرادت أنْ تكتسب شُهرة كشهرة أيام قرطاج السينمائية. ولم تأخذ بعين الاعتبار الخصوصيات. فنشأت أيام قرطاج المسرحية في ظلّ أيام قرطاج السينمائية. نشأت أيام قرطاج المسرحية تبعاً لأيام قرطاج السينمائية. فخصّصت الوزارة سنةً لأيام قرطاج السينمائية والسنةَ الموالية لأيام قرطاج المسرحية. وكانت الميزانية واحدة، سنةً بسنةٍ، هذه لأيام قرطاج السينمائية وهذه لأيام قرطاج المسرحية. واستمرّت الحال على تلكم الوتيرة، حتى سنة 2013، لمّا استُبدلَ هذا النظام بنظام جديد، لحكمة نجهلها. فاقتضى الأمرُ إقامةَ أيام قرطاج السينمائية كلّ سنة، وإقامةَ أيام قرطاج المسرحية كلّ سنة كذلك.
ثمّ كانت أيام قرطاج الموسيقية. نشأت نشأةً عقيماً. نشأت وبها ظَلَعٌ. ظهرت. ثمّ توقّفت. ثمّ ظهرت من جديد. تغيّرت مشروعاً. وتغيّرتْ مُنجزاً. وتوالت عليها الأيادي. وتصارع فيها المتصارعون. كثيراً ما سبقها سبٌّ وشتمٌ. وكثيراً ما لحقها سبٌّ وشتمٌ. وأظنّها لم تستقرَّ يوماً على حال. ولكن تلك قصّة أخرى. المهمّ أنْ نلاحظ أنّ النسجَ على منوال لا يُنتجُ دائماً ذلك المنوال. فتعثّرت أيام قرطاج المسرحية وإنْ تعثّراً لا يُظهر العِوَجَ، وتعثّرت أيام قرطاج الموسيقية تعثّراً بسبب العَرَج.
في هذه السنة ازدان فراشُ مدينة الثقافة الوثير بولائدَ بَهيّات الطلعة، على عادة الولائد في بلاد العرب: أيام قرطاج الثقافية للابداع المهاجر، وأيام قرطاج لفنون العرائس، وأيام قرطاج للفنّ المعاصر، وأيام قرطاج الجهوية للفنّ المعاصر، وأيام قرطاج الكوريغرافية، وأيام قرطاج الشعرية، وأيام قرطاج أخرى آتية لا شكّ فيها.
فلتهنأ مدينة الثقافة، لقد صارت لها أيام قرطاج لكلّ فنّ. وليهنأ الفنّانون في كلّ فنّ، لقد صارت لهم أيام قرطاجهم مثل السينمائيين. ولو تظاهر الفلاحون والبحارة غداً، وطالبوا بأنْ يكون لهم حقٌّ في أيام قرطاج وفي مدينة الثقافة، لمكّنّاهم في مدينة الثقافة من أيام قرطاج لكلّ خُضرة من الخضر، وأيام قرطاج لكلّ غَلّة من الغلال، وأيام قرطاج لكلّ نوع من الحبوب، وأيام قرطاج لكلّ سمكة من السمك، وكلّ حوتة من الحوت. ولو تظاهر الصناعيون والحرفيون والتجّار غداً، وطالبوا بأنْ يكون لهم حقٌّ في أيام قرطاج ومدينة الثقافة، لمكّنّاهم في مدينة الثقافة من أيام قرطاج لكلّ صناعة من الصناعات، الحديثة أو التقليدية، وأيام قرطاج لكلّ حرفة من الحرف، وأيام قرطاج لكلّ تجارة من التجارات.
كذلك ستتوالى المهرجانات في مدينة الثقافة على وقع الأيام إذن، أيام قرطاج لكل فن. أيام قرطاج لكل شيء. فلنغيّر اسم المدينة إذن. نجعلها من هنا فصاعدا مدينة أيام قرطاج لكل فن. مدينة أيام قرطاج لكل شيء. ولنغيّر مكان المدينة إذن. ننقُلها من تونس إلى قرطاج، حتّى ينطبقَ الاسمُ على مُسمّاه. ولِمَ لا، فالمدينةُ كالتمثال، كالصنم، يُمكنُ أنْ تُنقلَ ولا ضَرَر.
ولكنّ سؤالاً يَطرحُ علينا نفسَه: لماذا يُصرُّ القائمون على أمر الثقافة أنْ يُحيوا صوتَ قرطاج ويخنقوا صوت تونس؟ لماذا يا تُرى يسعوْن إلى العودة إلى قرطاجَ الوثنية الجاهليةِ أو إلى قرطاجَ التي أرادتها روما المسيحية تَبعاً لها ويحذرون تونس البربرية القديمة أو تونس العربية المسلمة أو تونس اليوم ذات الوجوه الألف؟ لماذا يُسمّون الأيام أيامَ قرطاج ولا يُسمّونها أيام تونس؟ لماذا هذا البحث عن الماضي البعيد والسكوت الرهيب عن الحاضر؟ لماذا التستّر والتخفّي؟
ما الحكمة من وراء ذلك يا تُرى؟