ونحن في متحف باردو أمام وجهين من الجمال: أبهة القصور الملكية وروعة اللوحات الفسيفسائية والمنحوتات التاريخية؟ كيف لنا أن نختزل في سطور تاريخ عصور؟ وهل يستوعب بياض الورق حبرا من السنين والقرون يختزنها متحف باردو في زواياه وثناياه؟ إنه أكثر من مكان أثري وأكبر من معلم تاريخي ... فقصور باردو كانت شاهدة على موكب إعلان عهد الأمان سنة 1857 وأول دستور لتونس سنة 1861 . ومن هناك تمت المصادقة على دستور الجمهورية الأولى سنة 1959 ودستور الجمهورية الثانية بعد الثورة في سنة 2014.
ليس بالغريب أن يحتل المتحف الوطني بباردو لقب أكبر متحف في تونس وواحد من أشهر المتاحف في العالم وقد أدرجته اليونسكو ضمن قائمة التراث العالمي.
لاشك أن زيارة متحف باردو هي متعة للنظر ودغدغة للذاكرة كي تستحضر تاريخ قرطاج العظيم ولكن أن تكون الجولة بمتحف باردو ليلا فتلك غبطة أخرى ومسرّة من نوع آخر يهديها لنا الليل ليهدهد الحواس على نغمات السهر والسمر والقمر... هذه الزيارة الليلية للمتحف الوطني بباردو نظمتها وكالة إحياء التراث والتنمية الثقافية لفائدة الصحفيين التونسيين تنفيذا لاتفاقية الشراكة المبرمة بين وزارة الشؤون الثقافية والنقابة الوطنية للصحفيين التونسيين بهدف الترويج للمعالم الأثرية والمواقع التاريخية في بلادنا. وإن كانت الوجهة هذه المرة متحف باردو بمناسبة مرور 130 سنة على افتتاحه، فقد مثلت فرصة سانحة لمزيد التشبّع من رمزيته التاريخية والحضارية وجمال هندسته المعمارية وثراء مجموعاته المتحفية...
قرطاج مهد الحضارات وأرض الثقافات
مع نسائم الليل المنعشة، بعث متحف باردو برسائل غزل وعشق إلى زواره المتلهفين للولوج في غياهب تاريخه واستنطاق معروضاته واكتشاف أسراره... فزادهم تحريضا وحماسا وإغراء للانطلاق في رحلة شيّقة مع قصصه المشوقة المتناثرة فصولها بين فسيفساء تختزل الروعة وتختزن الرمز ومنحوتات تجلت في عظمة وكبرياء و شواهد من العصور القديمة شاهدة على التاريخ... وقد أحدث المتحف سنة 1882 وتم تدشينه سنة 1888 تحت اسم المتحف العلوي، وفي سنة 1956، تاريخ استقلال تونس، أطلق عليه اسم المتحف الوطني بباردو. صنف كمعلم تاريخي في سبتمبر 1985.
عبر دهليز مقبّب ومن بوابة «الدريبة» انطلقت الرحلة بين طوابق متحف باردو وثنايا الذاكرة ليتجول ضيوف المتحف على متن أجنحة التخيّل ومحاولات التّمثل بين عصور التاريخ الذي جمّعتها أروقة المتحف لتحميها من النسيان ومحو الأثر. ومن فترة ما قبل التاريخ وصولا إلى العهد الحسيني حضرت تونس مهد الحضارات و أرض الثقافات وهي التي احتضنت الفترات الفينيقية والبونية والقرطاجية والرومانية والعربية الإسلامية، وقف الزوار إجلالا وخشوعا أمام عظمة تاريخ تونس وتوقفوا اندهاشا وانبهارا أمام لوحات فسيفسائية نفيسة وتماثيل منتصبة القامة في منتهى الروعة والفن...
في أروقته وأجنحته يحتوى متحف باردو على آلاف اللقى المتأتّية من حفريات أجريت في البلاد خلال القرنين التاسع عشر والعشرين، وهي مجمّعة ضمن أقسام وموزّعة على حوالي خمسين قاعة ورواقا لتعطي صورة عن مختلف المراحل التي قطعتها تونس، من عصر ما قبل التاريخ إلى أواسط القرن الماضي منها حسب الترتيب الزمني : ما قبل التاريخ، العهد البوني- اللوبي، العهود الرومانيّة والمسيحيّة القديمة مع الفترتين الوندالية والبيزنطية، وأخيرا العهد الإسلامي الذي يمتد إلى عصرنا الحاضر.
باردو ثاني متحف فسيفساء في العالم
يتربع المتحف الوطني بباردو على عرش المتاحف التونسية وهو أقدمها وأكبرها وأهمها... كما يتطلع في طموح إلى مصاف المتاحف العالمية وهو الذي اكتسب شهرة ضربت الأمصار وتجاوزت الأقطار بفضل كنزه الثمين من الفسيفساء الذي يعتبر الأكثر تنوعا وثراء وجمالا عالميا. ويحتل متحف باردو لقب ثاني متحف في العالم بالنسبة إلى فن الفسيفساء الرومانية بعد متحف فسيفساء زيوغما في تركيا، وتشمل مجموعته آلاف اللوحات الفسيفسائية الرومانية التي يعود تاريخها من القرن الثاني قبل الميلاد إلى ما بعد القرن السادس الميلادي.
ما بين اللوحات الفسيفسائية والتماثيل والأواني الفخارية والحلي والنقود ولوازم العبادة... توّزع اهتمام الزوار في الجولة الليلية بمتحف باردو في محاولة لاقتناص أكثر ما يمكن من القصص والحكايا وخبايا التاريخ... ولعل من أهم الكنوز التي توقف أمامها الزائرون استفسارا وانبهارا هي لوحة «فسيفساء سوسة» باعتبارها من أكبر اللوحات المعروضة في العالم والتي تصوّر أسطورة النصر لـ»نبتون» إلاه البحر الذي كان يحمي مدينة سوسة في القرن الثالث بعد الميلاد.
كما ارتحل ضيوف المتحف مع المعلومات التاريخية للمرشدة السياحية في عوالم اللوحة التي تصوّر لنا ملك الأتّيك إيكارييروس وأمامه إلاه الخمر ديونيزوس بصدد إهدائه عنقود عنب، أو تلك اللوحة لتي تصوّر كبير الآلهة الإلاه جوبيتار بصدد اختطاف الآلهة أوروبا...
وتبقى لوحة الشاعر فرجيل وقد أحاطت به «كليو» ملهمة التاريخ و»مليوهان» ملهمة التراجيديا الأجمل والأبهى والأشهى عند الكثير من زوار متحف باردو مما رشحها إلى أن تكون شعار معرض تونس الدولي للكتاب في دورتي 2017 و2018.
وفي انفتاح على التكنولوجيات الحديثة ومحاولة تطويعها لتكون في خدمة التراث، منحت الصدفة لزوار متحف باردو فرصة اكتشاف تقنية تحويل اللوحات الجامدة إلى مشاهد حيّة وصور متحركة على غرار إعادة تمثيل بعض معروضات جناح المهدية في متحف باردو الذي يجمع ثروة من اللقى البحرية التي تم العثور عليها في حفريات شاطئ المهدية من خلال حطام سفينة أغرقتها العاصفة حوالي القرن الأول ميلادي.
ومابين اللوحات الفسيفسائية والتماثيل وأواني الفخار والحلي والنقود وطقوس العبادة ... يسافر بنا الخيال إلى قصص من الأزمنة الغابرة عن نشأة التاريخ وولادة الحضارة.
متحف باردو عنوان التعايش والتسامح
ما إن تطأ خطاك بهو القسم الإسلامي بمتحف باردو حتى يخالجك شعور عصيّ عن الوصف وهو الممزوج بالحنين والانتماء والهوية... وأيضا بالحسرة على أمجاد ولّت ولم تعد، أيام كان العرب في مركز القيادة انطلاقا من الخوارزمي مخترع الصفر مرورا بابن سينا في الطب وصولا إلى ابن خلدون علامة العرب... هنا وهناك، مابين أبعاد المكان وآثار الزمان كانت التحف التي تعود إلى مختلف العهود من مخطوطات وحلّي ومنحوتات حجرية وخشبية... تحدثنا عن ورقات ناصعة من التاريخ العربي الإسلامي وتنسينا بصفحات مشرقة من هذه الحضارة سواد حاضرنا وهوان العرب اليوم.
وكان «قصر البديع» بطابعه الأندلسي والمشيد من طرف «محمد باي» لحريمه ما بين 1859 و 1864، تحفة معمارية للفترة الحسينية التي تعايشت خلالها العادات الأندلسية المغربية والإضافات الايطالية الواضحة خاصة على مستوى تخطيط القاعات و تزويق الفضاءات النبيلة بالجص وبلوحات خزفية من «القلالين»...
ولعل ما يشد الانتباه في التجول بين أروقة متحف باردو هو ذلك التعايش في سلام بين الديانات والتجاور بين الحضارات دون تنافر وإقصاء بل ليكمل بعضها البعض في ربط حلقات سلسلة مختلف فترات التاريخ التونسي الذي كتب بحروف من ذهب أن قرطاج كانت منذ أول انبعاثها من رحم الحياة عنوان اختلاف وتعدد وتسامح وتعايش لهذا استعصت على محاولات تجريدها من هذه الهبة السمائية.
بعد جولة في الماضي السحيق ورحلة في زوايا الذاكرة المثقلة بالحكايات والأحداث والشواهد... انتهت الزيارة الليلية إلى متحف باردو ولا يزال بالفؤاد عطش إلى المزيد ولا يزال بالعقل ألف سؤال وسؤال! فلا شك أن أسرارا لم تقل وحقائق لم تعرف لا تزال مختبئة في ثنايا المنحوتات وخطوط الفسيفساء... ولعل هذا هو سر متحف باردو الذي يجذب الزوار من مختلف بقاع العالم من أجل سبر أغوار الماضي ولكن هذه الأمنية أشبه بالسراب، فحديث التاريخ لا ينتهي!
افتتاح فضاءات تجارية بمتحف باردو
لأنه من أهم المتاحف التونسية ويحظى بشهرة عالمية فإن متحف باردو يشهد من فترة إلى أخرى أشغال تهيئة وتوسيع ليكون بمواصفات كبرى المتاحف في العالم. وحتى تكون جولتهم رائقة وزيارتهم ممتعة وفرّ المتحف لزواره مطعما ومشربا للاستراحة من تعب التجوّل بين أروقته. كما تم إثراؤه بفضاءات تجارية مختصة في الصناعات التقليدية حتى يقتني الزائرون شيئا للذكرى...
تهيئة الحديقة الأندلسية بالمتحف
لا يمكن التعريج على ذكر الأندلس دون الحديث على حدائقها الغناء وروضاتها البديعة ... ومن هنا تعود تسمية باردو إلى كلمة ذات أصل اسباني «البرادو» وتعني الحديقة أو الحقل. وبدوره لم يكن قصر باردو ليكتمل لولا حديقته الأندلسية التي تمت تهيئتها لاحتضان تظاهرة «ليالي باردو» ضمن شهر رمضان منذ أيام التي أهدت إلى جمهورها متعة من الطرب في أجواء أندلسية خالصة في حنين إلى جنة قرطبة الضائعة. وقد أكدت مديرة متحف باردو «فاطمة نايت يغيل» إلى أنه سيتم استثمار هذا المكان الطبيعي الملهم والرائع في احتضان المناسبات الفنية واستقبال زوار المتحف.
متحف باردو عبر التاريخ
تم تشييد عدد من المباني الفاخرة داخل أسوار الحي العسكري المحصن بباردو و الذي مثل مركز الحكم الحسيني منذ سنة 1705. و نذكر من ذلك:
- قصر أول بسلم ضخم مؤطر بأسود شيده «علي باشا» الحاكم الثاني في العائلة الحسينية بين سنتي 1735 و 1756.
- «القصر الصغير» بطابع أندلسي مغربي تونسي والذي بناه «حسين بـاي» ما بين سنتي 1824 و1835.
- «قصر البديع» ذا الطابع الايطالي والذي يأوي حريم «محمد علي» والمبني ما بين 1859 و1864.
و قد ظل « قصر البديع» و«القصر الصغير» المتقاربان مقرات إقامة للبايات إلى حدود سنة 1879. و قد اضطر بعدها «الصادق باي» المسؤول عن إفلاس المملكة إلى التقشف والانتقال بالتالي للعيش في المبنى المجاور المسمى «قصر السعيد» وهو أكثر تواضعا من قصور باردو.