في تحويل المسرح من تظاهرة محدودة في الزمن إلى ظاهرة مجتمعية كاملة تتجاوز المتابعة والمواكبة إلى تطوير الثقافي نحو منوال تنموي يتماهى فيه الفني والثقافي مع حركية اقتصادية تعرفها المدينة طوال فترة التحضير والانتظام.
« 24 ساعة مسرح» هي تظاهرة عروض مسرحية مستمرة دون توقف تعمل على جمع أكبر عدد من الفرق المسرحية و من المسرحيين بالإضافة إلى فواصل موسيقية تأمنها فرق تعمل على تأصيل الموسيقى في سياق تراثي ثري تمتاز به مدينة الكاف و المناطق المحيطة بها في الشمال التونسي هذا علاوة على مشاركات مستمرة لوفود عربية و غير عربية في كل دورة حيث وقع الاختيار هذا العام على دول «ألمانيا» و «إيطاليا» و «ليبيا» و «العراق» و«الأردن» كضيوف شرف لتقديم فنون الشارع وعروض مسرحية بالإضافة إلى مداخلات فكرية.
الوسائط الحديثة وفنون العرض بين التكامل والنشاز
اختار القائمون على دورة هذا العام و تحديدا مركز الفنون الدرامية و الركحية بالكاف والمندوبية الجهوية للشؤون الثقافية بالكاف أن يكون موضوع الندوة الفكرية حول الوسائط الحديثة و فنون العرض و البحث في ماهية العلاقة بينهما من جهتي فعل النشاز و فعل التكامل وذلك من خلال مداخلات نظرية و تطبيقية تمحورت بشكل خاص حول مسألة التغريب الذي يمكن أن يقع فيه المسرح كفن مستقل بأن تطغى عليه مدخلات مثل المقاطع السينمائية التي يمكن أن تحول الممثل من مركز للعرض كجسد متحرك و ذات مؤثرة إلى مجرد ديكور مكمل للمقطع السينمائي المذكور وفي سياق ناف لمثل هذه التخوفات يؤكد الفنان و المخرج أنور الشعافي والمدير السابق لمركز الفنون الدرامية و الركحية بمدنين و المدير السابق أيضا للمسرح الوطني أن المسرح هو إن عصره و ابن بيئته وأن المسرح لطالما تناغم مع السياقات التي وجد فيها بل و أخذ منها في كل عصر كل المستجدات و من ذلك استعمال الأقنعة والأحذية ذات الكعب العالي مثلا و يذهب الشعافي في ذلك إلى أبعد من هذا إلى درجة القول بأن عملية الانغلاق حول تصورات و أفكار و تقنيات معينة قد تنعكس بالسلب على المسرح نفسه الأمر الذي لن يكون في صالح في جميع الأحول مستشهدا في جانب نظري بمسرحية «الآن وهنا» التي قام بإخراجها منذ سنوات والتي اعتمدت فيها تقنية استحضار شخصيات في قارات مختلفة و متباعدة من خلال شبكة الانترنيت وبثها بشكل محكم في كل دولة داخل عرض واحد ليشاهد الجمهور في تونس مثلا شخصية حقيقية على الركح وشخصية افتراضية أخرى بمقاسات حقيقية وبتفاعل حيني وآني يلغي المسافات ويدغدغ في المشاهد وتركونية المسرح وكذلك يكون الأمر وفي نفس الوقت في بلد آخر حيث تتحول الشخصية التي توجد على الركح في تونس إلى شخصية افتراضية بذات المواصفات.
«الشقف» و«المجنون» تصنعان الحدث مسرحيا
سيكون تكريم الفنان والمخرج الراحل عز الدين قنون هذا العام مختلفا عن المألوف وذلك في الذكرى الثانية لسفره الأبدي من هذا العالم حيث سيكون التكريم في شكل مهرجان من العروض لمسرحية « الشقف « التي تعد واحدة من آخر بنات أفكاره والتي تم تنفيذها بكل جماعي بين مسرح الحمراء والمركز العربي الإفريقي للتكوين والبحوث المسرحية وMT Space بكندا و قد اختار القائمون على التكريم و تحديدا «مسرح الحمراء» الذي أسسه عز الدين قنون أن يكون الانطلاق تحديدا من مدينة الكاف لما لها من رمزية و ثقل معنوي في مجال فن المسرح في تونس وهي التي أخذت أشوطا كبرى في التحول إلى «محجة» للمسرحيين التونسيين والعرب أيضا ليكون إختام ذلك في شرم الشيخ المصرية مرورا بعدد من المسارح التونسية الأخرى.
أولى العروض الرسمية لـ «24 ساعة» من المسرح المتواصل كانت مع عرض الفنان والمخرج التونسي توفيق الجبالي والذي يحمل عنوان «المجنون» وهو توظيف مسرحي لكتاب «المجنون» للكاتب جبران خليل جبران ومعلوم أن جبران قد عمل من هذا الكتاب على إعلاء صفة الجنون وجعلها سبيلا لتجرد النفس من كل الروابط والمكبلات التي تجمعها بنفسها «الكآبة» مثلا أو «السعادة» بالإضافة إلى التجرد من كل العلاقات الخارجية الأخرى المجتمعية أو السياسية و الدينية و كل أشكال السلط الأخرى وحول الجبالي خلال هذه القراءة المسرحية الركح إلى مختبر كبير حاول فيه العمل على صفة «الجنون» طبعا في تماه مع النص الأصلي و ذلك باستحضار سريالي للقيم الضوئية دون سواها ( الأبيض و الأسود ) وبتركيب كوريغرافي لحركات الممثلين على إيقاع قراءة فصول من كتاب «المجنون» وردت هي الأخرى بشكل غير خال من التفاعل الممسرح وخصوصا على شكل مناجاة داخلية التي تبقى هي أساس عملية التصعيد الداخلي الذي يمارسه المجنون لدى الجبالي وجبران على حد سواء.
أربعون عرضا مسرحيا دون توقف .. الكاف «محجة» للمسرحيين
بعيدا عن مسالة الاحتفالية والقيام بالعروض والمغادرة على إثرها فإن فلسفة تظاهرة « 24 ساعة مسرح» بالكاف تهدف منذ تأسيسها على مفهوم التشبيك بين المسرحيين من خلال عملية التكثيف في الكم ففرصة الالتقاء بين هذا الكم من المسرحيين و المتفرجين تكاد تكون حدثا نادر الحدوث وبالتالي فإن فرصة التنقل لمشاهدة كل عرض على حدة موزعة في كامل تراب الجمهورية تكاد أن تكون أمرا سرياليا مستحيل الحدوث ومن هنا فإن عملية الثقيف المسرحي الموجهة لعموم المتابعين و لفئة الشباب خصوصا هي تفعيل حقيقي لتحصين هذه الفئة ضد قوى الاستقطاب نحو الرجعيات و التي تجد لها مكانا أينما اختفى الفعل الثقافي الحقيقي وهذا في الحقيقة انتقال بشعار «مقاومة الثقافة للإرهاب» من مرحلة الشعار إلى مرحلة الممارسة الحقيقية.
الرهان على تحويل الثقافي من شأن مغلق وموجه لفئة دون غيرها إلى شأن عام بل وإلى خبز يومي تتداول أخباره داخل مقاهي المدينة وحاناتها وبيوتها وأسواقها هو حتما إمساك ببداية خيط ثقافي مبشر بثقافة شعبية تعمل على الترفيه بنفس القدر الذي تعمل به على الارتقاء بالذوق العام ولعل لمدينة الكاف في ذلك خطوات لما فيها للمسرح من مكانة ولما لها من عبقرية المكان.
بقلم خليل قطاطة