بورتريه عازف " الڤصبة " مصطفى الذيبي: صوت الرعاة ورجع صدى الجبال

هي أنفاس تنفخ الروح في الخشب، وكفّ يد في النور، وخمس أنامل تغازل الشعر والشجر والقمر...

ومتى التقت هذه العناصر، نطقت "الڤصبة" موسيقى وأرجوحة حلم وأنشودة رعاة. ربما لأنها الآلة الموسيقية الأقرب إلى الطبيعة في مادتها وصوتها، فإنّ "الڤصبة" تصيب متى غنّت كبد الحقيقة وشغاف القلب لتهتز النفس أمام عذ . فكيف لهذه الآلة البسيطة، الصغيرة أن تعزف لوحدها حزن "يعقوب" وشوق المحبوب وشجن الحنين ولحن الفرح والرقص... ؟

"يا ﭭصبة العود رنّي *** يا مخضبة بالحناني ***يا دمعة العين هلّي... " هكذا قال "الغنّاي" في وصف "الڤصبة" ومضى. وبقي صوت "الڤصبة" في أعماق تونس من شمالها إلى جنوبها حصنا يحرس هوية موسيقية أصيلة ويصون إرث ثقافة الجبال والغابات والواحات... و"للڤصبة" فنانون ومريدون، أعلام وأسماء، منهم عازف "الڤصبة" مصطفى الذيبي. فمن يكون؟ وكيف تمثل "الڤصبة " عنده كنه الإنسان وأصل الكيان؟

"الڤصبة" تضمّد الجراح وتداوي الأرواح

في البدء، كانت نبتة قصب برّية وقصيّة على ضفاف الوادي أو فوق تربة ندّية، فمرّ بها راع ليقتلعها ثم يجوّفها ويثقبها وينفخ فيها من أنفاسه روحا ونبضا فصارت آلة "الڤصبة". التي ترد رجع الصدى صوتا شجيّا ولحنا صادقا ما بين بحّة حنجرة وتنهدة فؤاد ملتاع أو مشتاق أو عاشق ...
وفي البداية، كان مصطفى الذيبي طفلا حالما يرعى الأغنام في منطقة "حاسي الفريد" من ولاية القصرين و"الڤصبة" تؤنس وحدته وترافق يومياته وأغنامه على سفح جبل "سلّوم". وقتها، كان جبل "سلّوم" شامخا ومسالما لأنه كان سالما من وحشية الإرهابيين وألغامه التي انفجرت في السنوات الأخيرة في وجه أطفال رعاة ونساء يقطفن الشيح والإكليل...إلى اليوم، لم يغادر عازف "الڤصبة" نجيب الذيبي مسقط الرأس ولم يتخل عن الجبل الشاهق بعليائه وبذكريات الطفولة. وبقي وفيّا لهواية صارت مهنة في العزف على آلة "الڤصبة".
يفتح مصطفي الذيبي أدراج الذاكرة، ليعود إلى أول خطوة على سلّم الشهرة كانت وليدة الصدفة. ففي يوم حظ، والطفل الراعي يعزف "الركروكي" و"الڤصبة" تتهادى بين يديه، وهو يظن ألا أحد يسمعه غير مواشيه، تفطّن صديق والده إلى موسيقاه. فكان هذا الرجل سببا في مشاركته في مهرجان الشعر الشعبي بالقصرين في آخر الثمانينيات. وعاد منه فائزا بمكافأة مالية قيمتها عشرة دنانير، وعمره لم يتجاوز16 عاما. ومنذ ذلك اليوم المشهود، صار مصطفى الذيبي يسجل حضورا لافتا في المهرجانات والاحتفالات حتّى كان اللقاء الفنّي بينه وبين الفنّان ومؤسس المركز الثقافي الجبلي للفنون والحرف بسمامة عدنان الهلالي بوابة للشهرة المحلية والعالمية. وذلك بعد أن أصبح عضوا قارا في مجموعة "رعاة سمامة" الذين جابوا بعروض طريفة ونوعية ومتجذرة في الموروث الثقافي والحضاري مهرجانات تونس والعالم. ومنها مهرجان "موسيقى وفلسفة" في تورناي البلجيكية ومهرجان « لاسكالا » الإسبانية حيث شارك رعاة سمامة كضيوف شرف في « عيد الملح » في « كاتالونيا »...
بمنتهى الفخر والاعتزاز، يستذكر مصطفى الذيبي المرور الجذّاب والحضور الساحر لآلة "الڤصبة" أمام أنظار وأسماع مجتمعات القارة الأوروبية، فيقول: " كان يكفي أن أنفخ أنفاس الحياة في "الڤصبة" حتى تتكلم هي، ويصمت كل الناس. كان الجميع يصغي لعزف هذه الآلة في دهشة الأطفال وخشوع المريدين وطرب المحبّين لموسيقى تضمّد الجراح وتداوي الأرواح. "

"الڤصبة" أنفاس وأنامل... وصناعة

هي "ڤصبة"، فنفخة، فزفرة، فكلام بلا كلمات وسلام بلا قفازات يزرع بذرة المودة في أذن كل من سمع عازف "الڤصبة" يهزّ "الطرڤ" تلو "الطرڤ" في العزف على وتر الروح في نحيبها وشجنها وتوقها للسعادة والحرية. وحتّى تتحوّل من قصبة جوفاء إلى آلة موسيقية تطرب جمهورها حدّ الانتشاء، لا بد أن يكون عازف "الڤصبة" طويل النفس تماما كالسبّاح الماهر. كما تحتاج الڤصبة إلى رئة قوية حتى يتنفس جيّدا عازفها وحتى تنفّس مليّا عن سامعها، فإنّها تشترط أصابع تحذق الضغط على ثقبها بما هي منافذ البوح حتّى يتلوّن اللحن، ويتوّرد القصب ألوانا وأوزانا ومقامات ... وفي ترويض الڤصبة حتى تبوح بسرّها وتهب مفاتيح طبقاتها، يكشف العازف مصطفى الذيبي سرّ الوصفة، فيقول: "لا تحب الڤصبة الأصابع الباردة بل لابد من تسخين اليدين قبل العزف عليها. وأذكر في ما مضى من الزمن، كيف كنت أتدفأ وأستأنس بصوت الڤصبة في ليالي الشتاء الطويلة والباردة، فكان أبي الراحل يطلب المزيد والمزيد من ألحان وأوزان تنسينا المكان والزمان. إنّ الڤصبة لا تجيب إلا من يكون رقيقا معها ولا تتجاوب إلا مع من يعشقها ويدمنها كضمأ العطشان في الصحراء وكتعطش الأشجار للماء.."
وهو الذي رافقته الڤصبة في رحلات "الهطّايا" في اقتفاء أثر الكلأ والعشب في ربوع الشمال الغربي، وشهدت على تواتر فصول العمر في جسد الراعي، يراكم العازف مصطفى الذيبي خبرة طويلة وعشرات السنوات في محاورة الڤصبة حتى صار من أبرز فنانيها ومن أهم أسمائها ... حيث يؤكد أنّ لا أحد يستطيع مجاراته ومنافسه في عزف "الركروكي".
سواء عزف مصطفى الذيبي "الركروكي" أو "الصالحي" أو المثلوثي" أو "العبيدي" أو"الصحراوي" أو الطرخاني"... فإنه أبدا لا يخطئ الأوزان حيث لا مكان للنشاز بين أصابع تعلمت فنون الڤصبة من فناني تونس والجزائر، وصقلت موهبتها بنفسها دون حاجة إلى دروس أكاديمية أو إلى معاهد الموسيقى. وبفضل مهارته في إتقان الطبوع، حاز مصطفى الذيبي على بطاقة الاحتراف منذ أكثر من 25 سنة. كما يستعين اليوم أساتذة الموسيقى بخبرته في العزف على آلة الڤصبة في البحوث ومشاريع التخرج الجامعية.
في الأصل، خُلقت الڤصبة من الخشب ومن الهواء نطقت بالهوى. ولأنها الأقرب إلى الطبيعة والأصدق في البوح والشجن، يتمسك مصطفى الذيبي بالعزف على ڤصبة مستخرجة من نبات القصب مفضلا إياها عن ڤصبة الخفاف (الألمنيوم) أو النحاس. تماما كما أحسن العزف عليها ، فإن هذا العازف برع في صنع آلة الڤصبة بنفسه لاستعماله الشخصي وللتسويق لمن يرغب في الشراء.
وعن أجود الأنواع وأغلاها سعرا، كشف مصطفى الذيبي أنّ "ڤصبة سندس" في الجزائر هي الأعلى قيمة لأنها تنبت في الطبيعة ملونة وكأنها مخضّبة بالحنّاء دون الحاجة إلى تلوينها وتزيينها وتزويقها. كما صرّح أنّ سعر الڤصبة في الجزائر يصل إلى 300 دينار أما فيبيعها انطلاقا من حدود 100 دينار مؤكدا أنه كلّما كانت الڤصبة قديمة ومعتّقة كلّما كان عزفها أشد رقة وعذوبة وأبلغ تأثيرا وسحرا.

فنانو "الڤصبة" في حاجة إلى لفتة اهتمام !

هي التي اختارته منذ الصبّا ولم يخترها، وهي التي غازلت إحساسه وغزلت له من صوتها برنسا يتلّحف به بين الفيافي والدروب التي يقطعها راعيا وعازفا وإنسانا يصارع الحياة وتصارعه. منذ أن شبّ في قلب مصطفي الذيبي عشق "الڤصبة" لم يبدلها ولم يستبدلها بغيرها من الهوايات أو الآلات، بل بقي وفيا لها منذ سنوات الطفولة إلى أن خطّ المشيب مفرقه.

يفتخر مصطفى الذيبي ويحق له أن يفتخر بقرابته من الشاعر الشعبي الكبير نجيب الذيبي الذي رحل عن عالمنا في سنة 2021 ليبقى من بعده لقب وقصيد "صقر الشعانبي" شاغرا ويتيما. في مواصلة مشوار الخال نجيب الذيبي،لا يدّخر الفنان مصطفي الذيبي جهدا ولا وقتا ولا نفسا في توثيق التراث الشعبي بجعة القصرين وفي التعريف بآلة الڤصبة وثراء نغماتها وأوزانها ومقاماتها سواء في تونس أو خارج حدود الوطن. لكن بصوت التحسر والرجاء في الآن نفسه، قال : " أرجو من وزارة الشؤون الثقافية إيلاء عازفي الڤصبة ما يستحقونه من رعاية واهتمام ودعم معنوي ومادي... ففي تشجيعهم على الحفاظ هذه المهنة / الموهبة حفظ لوجه من وجوه الهوية الموسيقية الشعبية وتثمين لعنصر من عناصر التراث غير المادي. إنّ الإحاطة بفناني الڤصبة اليوم -خاصة من أصحاب بطاقة الاحتراف - سيحول دون شك من اندثار هذه الآلة الموسيقية العريقة وأيضا سيشجع الشباب على مواصلة المشوار وتحصين "الڤصبة" ضدّ التلاشي والاضمحلال! فمن يرهف السمع لأنين "الڤصبة" حين تنادي أنقذوني من الزوال قبل فوات الآوان !

 

 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115