حتى لا تغرق أخصب الأراضي الفلاحية المنخفضة بالهوارية أصبح في السنوات الفارطة «نقمة» لنفس هذه الأراضي وأيضا تهديدا لنقاء اجمل شواطئ ساحلها الجنوبي اين يصب مياهه.
هو مجرى لسيلان مياه الامطار يمر من منطقة دار علوش (معتمدية حمام الاغزاز) ثم يحاذي المنطقة السكنية «سيدي مذكور» تليها أراضي فلاحية تابعة لمعتمدية الهوارية ليصب في الشاطئ القبلي المعروف بصفاء مياهه .
شيئا فشيئا وبمرور السنوات تغيرت طبيعة المياه التي تصب في المجرى لتصبح مياه صرف صحي غير معالجة تابعة لمنطقة دار علوش( غير مرتبطة بشبكة صرف صحي) وأيضا مياه ملوثة صادرة عن ثلاثة مصانع لتحويل الطماطم .
ترافق هذا كله مع معطيين اثنين مهمين جديدين :
الأول هو أن معتمدية الهوارية كسبت في السنوات الأخيرة شهرة في الداخل والخارج كمنطقة سياحية ذات خصوصيات طبيعية ايكولوجية فريدة في المتوسط وفي العالم لتنوع سواحلها بين رملية وصخرية من ناحية ولعذريتها من ناحية أخرى وأيضا لطابع المنطقة الفلاحي الذي جعلها تصنف من طرف وزارة الفلاحة كواحدة من خمس مناطق في الجمهورية التونسية كـ «منطقة مميزة من أجل الفلاحة البيولوجية» والهوارية مصنفة عالميا «منطقة مهمة من أجل المحافظة على الطيور» ZICO لان عددا كبيرا من الطيور المهاجرة القادمة من افريقيا في فصل الربيع تختار التحليق فوق جبل الهوارية قبل مواصلة طريقها الى أوروبا من اجل التعشيش .
من أجل هذه الخصائص وغيرها أصبحت «دور الضيافة» القليلة العدد تستقبل زوارها كامل أيام السنة تقريبا وجعلت أغلب أهالي الهوارية المتشبعين بمحبة بلدتهم يحلمون بان تصبح هذه الأخيرة منتجعا إيكولوجيا راقيا من أجل الراحة والتأمل والرياضة والاكتشاف مع ما يعنيه هذا من منافع تنموية بديلة تعود بالفائدة على المعتمدية باسرها وربما تمثل نموذجا ناجحا للتنمية المستدامة في تونس تستطيع مناطق أخرى ان تحذو حذوه .
تزامن هذا الحلم الكبير مع معطى اصبح مزعجا ومخيفا وتمثل في توسعة طاقة انتاج الوحدات الصناعية المنتصبة في دار علوش وبالتالي ازداد بشكل كبير منسوب المياه الملوثة المسكوبة في وادي القرعة (خاصة في فصل الصيف) لتبلغ حسب اخر التقديرات حوالي6000 متر مكعب يوميا وما يعنيه ذلك من اخطار كبيرة على المائدة المائية للأراضي التي ستمر عليها ولتلوث الشاطئ القبلي وأيضا لإمكانية فيضان هذه المياه على قرية «سيدي مذكور» (حصل هذا بالفعل قبل أيام) المتاخمة للوادي والتابعة إداريا لبلدية الهوارية.
وللتذكير فقط فان مثل هذه المياه الملوثة وغير المعالجة تتسبب في وفاة 4000 طفل يوميا في العالم.
حتى ألخّص أقول إن في الهوارية اليوم حلما كبيرا وأيضا تخوفا أكبر وهذا الشعور الأخير الممزوج بالأمل هو ما يفسر على الأغلب تناغم السلطة البلدية المحلية مع إرادة الأهالي لإعادة غلق الوادي بعد فتحه بالقوة العامة وأيضا الامتعاض من القرار الوزاري الأخير لإعادة فتحه «تدريجيا».
يذكرني هذا المثال بمشكل الفوسفوجيبس في قابس الذي حول الخليج البحري لهذه المدينة والذي يعتبر الأغنى بالأسماك في البحر المتوسط (محضنة المتوسط) إلى مجرد صحراء قاحلة واضحى «شاطئ السلام» غير قابل للسباحة وتحت ضغط الأهالي والمجتمع المدني وعوض التفكير جديا في التخلي عن هذا المصنع وتعويضه بصناعات نظيفة تتماشى والخصوصيات الطبيعية للمنطقة فقد وقع اقتراح تحويل النفايات الى منطقة أخرى مجاورة ليرفض أهاليها وتستمر المأساة على حالها .
لا أدري هل يعرف من اتخذ قرار فتح الوادي جيدا الخصوصيات الطبيعية المتميزة والهشة للهوارية وان من ركائز الحوكمة المحلية التي جاء بها الدستور الجديد هو إعطاء الجماعات المحلية مزيدا من الصلاحيات لتقرير نوعية التنمية بمناطقهم باعتبارهم الاعرف بخصوصياتها وان التوجه العالمي للتنمية الذي تدعمه الأمم المتحدة (17 هدفا من أجل التنمية المستدامة) والذي أمضت عليه بلادنا يذهب ويتماهى مع مبدا الاستدامة والمحلية .
ربما يرد علي هؤلاء بان هناك الان مشروعا لربط منطقة دار علوش بشبكة الصرف الصحي ثم ربط الشبكة بمحطة التطهير بالهوارية يليها رمي المياه «المعالجة جزئيا» في شاطئ الهوارية.
على ان المجتمع المدني في الهوارية يريد مزيدا من الضمانات والنقاش حول هذه النقطة, أولا لان معالجة المياه في تونس هي معالجة «جزئية فقط» يعني ان المياه تبقى «ملوثة نسبيا» حتى بعد تصفيتها وثانيا لتمدد منطقة دار علوش ومصانعها وبالتالي تضخم كمية المياه القادمة من المعتمدية المجاورة .
وانا اكتب هذه الاسطر فان مسيرة شعبية سلمية دعا اليها الاتحاد المحلي للشغل بالهوارية انطلقت بعد من مقر البلدية من شعاراتها الاساسية «العيش في وسط نظيف» و«ضرورة التفاعل مع البدائل المحلية المستدامة المطروحة من المجتمع المدني» وهي أولا وبالذات تريد ان تعبر عن رفض الأهالي للقرار الوزاري الأخير بالفتح التدريجي .
وللتذكير فهذه ليست اول مسيرة سلمية معارضة لفتح الوادي وان كل الجمعيات المحلية كانت قد نشرت بيانات مساندة للمجلس البلدي في مسعاه لتجنب «الكارثة».
يبدو أن الحل الذي يستجيب لتطلعات أهالي الهوارية في تنمية متناغمة مع روعة محيطهم الطبيعي لن تكون بين ليلة وضحاها إذ ورغم أنهم يعتقدون أن ربط منطقة «دار علوش» بشبكة الصرف الصحي المعالج هي خطوة أولى إلى الأمام فإن الحل النهائي يبدو في الاستنجاد بخبراء محايدين في المجال البيئي (من الأفضل ان يكون مكتب دراسات أجنبي متخصّص في مشاكل التلوث) إذ لماذا لا يقع مثلا تأهيل محطة التطهير بالهوارية لتصبح قادرة على تصفية من الدرجة الثانية أو الثالثة للمياه ثم توجيه جزء من المياه المعالجة لسقي غابة دار شيشو الشاسعة في فصل الصيف حيث ذروة تصريف المياه ؟.