Print this page

في المجموعة القصصية "عرس القمر" لليلى الدّعمي: للقمر حكاية... وللإنسان مرآة !

حين نقرأ الأدب لا نبحث فقط عن حكاية بل عن أنفسنا داخلها

عن أصوات تبوح بدلا عنّا، عن خوفنا وأحلامنا ورغباتنا التي لا نجرؤ دائما على قولها بصوت عال. ولأنّ الأدب يظل قادرا على إنقاذ المعنى من الضياع، تأتي المجموعة القصصية «عرس القمر» للكاتبة التونسية ليلى الدّعمي بوصفها تجربة سردية هادئة وعميقة، لا تلهث خلف الحدث، بل تتأمّل أثره في الروح. فهل نحن أمام عرس حقيقي أم حلم بالعرس؟ أمام نور أم وهم نور؟ وهكذا يدخل القارئ النص محمّلا بهذا القلق الجميل الذي سيرافقه حتى النهاية.
في تقديم لأستاذ الأدب الحديث بالجامعة التونسية عبد القادر عليمي، وعن دار الأمينة للنشر والتوزيع ضمت المجموعة القصصية "عرس القمر" لليلى الدّعمي 9 قصص قصيرة. وقد احتضن بيت الرواية مؤخرا تقديم تجربة الكاتبة التونسية ليلى الدعمي في ترجمتها للمجموعة القصصية "شجرة الأحلام العالية" للدكتور المنذر المرزوقي ".
"عرس القمر"... فرح هشّ ومعنى معلّق
يشكّل عنوان "عرس القمر" عتبة نصيّة بالغة الكثافة والدلالة، إذ يقوم على تركيب إضافي يجمع بين لفظتين تنتميان إلى حقلين دلاليين متباعدين ظاهريا. فالعرس طقسا أرضيا إنسانيا يحتفي بالحياة، في المقابل يأتي القمر بوصفه عنصرا سماويا بعيدا، مرتبطا بالغياب والتحوّل. وقد أهدت ليلى الدعمي قصتها "عرس القمر" إلى الشهيد شكري بلعيد، شهيد الحرية والكرامة.
فكأننا ومنذ عتبة العنوان أمام فرحٍ ليس أرضيا تماما، ونور ليس مكتملا، واحتفال معلّق بين السماء والأرض، بين الممكن والمستحيل، بين الحلم والواقع. وما بين اللفظتين في عنوان "عرس القمر" يولد فرح هشّ ومعنى معلّق. فالعرس يفترض القرب واللمس والمشاركة، والقمر يفترض البعد والمسافة والغياب. والجمع بينهما يُنتج صورة شعرية تقول إن الفرح في هذا العالم ليس كاملا، وإن المعنى موجود لكنه غير مكتمل، وإن الإنسان يحتفل بما يتوق إليه أكثر مما يحتفل بما يملكه !
إنسان بلا أقنعة بطولية
لا تعتمد القصص في "عرس القمر" على حبكات تقليدية قائمة على بداية ووسط ونهاية واضحة، بل تقوم على مقاطع سردية قصيرة، ومشاهد نفسية، ولحظات وعي. فالحدث مهما كبيرا أو بسيطا أو غائبا ، يجعل الكاتبة تركّز على أثر الحدث في النفس لا على الحدث نفسه.
بهذا المعنى، تتحوّل القصة من حكاية عن ماذا حدث؟ إلى توصيف كيف كان الشعور في تلك اللحظة؟، وهو ما يفسّر الطابع التأملي والباطني للنصوص. في عمقها، تعبّر هذه المجموعة عن أزمة الإنسان في زمن التحوّلات: أزمة الهوية، والخوف من الفقد، والحنين إلى المعنى، والرغبة في الحرية، والبحث عن وطن عادل وإنساني.
لم تكن الشخصيات في هذه المجموعة القصصية مكتملة الملامح بالمعنى الواقعي وبمفهوم الأبطال التقليديين، بل هي ذوات قلقة ومتشظية تبحث عن معنى وجودها. وحتى وإن حملت الشخصيات أسماء واضحة أو أسماء رمزية، فإنها كثيرا ما تتجاوز الفرد الواحد لتتحوّل إلى صورة للإنسان المعاصر في سياق اجتماعي مضطرب.
في المجمل هي شخصيات تفكر و تتساءل وتحتار، مما يجعل بعدها الفلسفي والنفسي أقوى من بعدها الحكائي. وما يلفت هنا أن الكاتبة لا تحاكم هذه الشخصيات ولا تمجّدها، بل تنظر إليها بعين إنسانية رحيمة، تتركها تعبّر عن نفسها دون خطابة أو وصاية.
من الواقعي إلى الرمزي
على مستوى اللغة جاء أسلوب ليلى الدعمي مكثّفا، يميل إلى الجمل القصيرة، وإلى الإيحاء بدل التصريح، وإلى الرمز بدل الوصف المباشر. وهو ما يمنح النصوص طابعا شعريا يفتح المتن على قراءات متعددة.
في فضاء رمزي متحوّل، لا يحضر الزمان والمكان كإطارين ثابتين، بل كعنصرين نفسيين ودلاليين. فالليل والذاكرة والماضي والمدينة والوطن ليست أماكن أو أزمنة فقط بل حالات وجودية تعبّر عن القلق والخوف والحنين والانتماء الجريح.
وهكذا يتحوّل الفضاء القصصي في "عرس القمر" إلى مرآة للداخل النفسي أكثر مما هو مرآة للخارج الواقعي.
تقدّم «عرس القمر» كتابة سردية لا تبحث عن الإدهاش بل عن الصدق، ولا عن الضجيج، بل عن المعنى. إنها مجموعة تكتب الإنسان في لحظة قلقه، وتمنحه صوتا هادئا في عالم صاخب، وتذكّرنا بأن الأدب، حين يكون صادقا، لا يصف الحياة بقدرما يساعدنا على احتمالها وفهمها في مساحة ممكنة من الأمل والحلم.

المشاركة في هذا المقال