أو يقف ورائها ثم يمضي، بل كان الكاميرا نفسها حين تقرر أن ترى وأن تشهد، وأن لا تغمض عينها أبدا. رحل جسده في الثانية والسبعين، بعد أزمة أنهكت القلب والرئتين، لكن صوته وصورته واسمه باقون على قيد الحياة ليشهدوا على سيرة مخرج فلسطيني حوّل الألم إلى صورة، والذاكرة إلى فعل مقاومة.
في أعمال محمد بكري، لم يكن الوطن شعارا إنما وجها وبيتا وأما، وطفلا يواجه دبابة بأسئلة أكبر من عمره. فكان من البديهي أن يصبح محمد بكري أحد أبرز الأصوات السينمائية الفلسطينية والعربية، وأن تتجاوز أفلامه الحدود والجغرافيا، لتُعرض في هولندا وبلجيكا وفرنسا وكندا… وكانت فلسطين دائما بوصلته وملهمته ورسالته !
«المتشائل» لتوفيق الجبالي جعلته يزور تونس لأول مرة
وُلد محمد بكري في في قرية البعنة بمدينة الجليل التي تعلّم أبناءها منذ الطفولة كيف يحملون الوطن في القلب أينما حلوا أو ارتحلوا. من هناك خرج محمد بكري إلى المسرح، إلى "مشهد من الجسر" لآرثر ميلر، وكأنه يعبر جسرا أول بين ذاته والعالم. ثم تواصلت الرحلة الإنسانية والمسيرة الفنية ما بين مسرح وسينما وتمثيل وإخراج وإنتاج... وكلها كانت طرقا مختلفة لقول الشيء نفسه: الفلسطيني ليس رقما، بل حكاية وملحمة خالدة.
ولم تكن تونس محطة عابرة في حياة محمد بكري. وقد اتخذها مكانا دافئا وصديقا قديما، وفضاء للثقة. وفيها أقام طويلا، خصوصا خلال جائحة كوفيد-19، وفيها نسج صداقات حقيقية مع فنانين ومثقفين وجدوا فيه الإنسان قبل الفنان. ووفقا لشهادة المخرج التونسي الحبيب المستيري، وبفضل دعم السينمائي التونسي فيصل الحصائري في الإنتاج، وُلد فيلمه الأكثر إيلاما وإثارة للجدل «جنين جنين».
في حد ذاته يعتبر فيلم «جنين جنين» أيقونة فلسطينية فلم يكن وثائقيا بالمعنى التقليدي بل شهادة مفتوحة على جرح لم يُسمح له أن يلتئم. وقد صوّر بكري مخيم جنين لا ليحكي قصة إنما ليمنع طمسها. فدفع الثمن من ملاحقات قضائية ومنعا، وتشويها، لكنه ظل يقول بهدوء عنيد: لو عاد بي الزمن، لفعلت الشيء نفسه. فلا تفاوض على الذاكرة.
وقد التقت "المغرب" محمد بكري لأكثر من مرة، فقال في توصيف علاقته بتونس: "صدقا لا مجاملة أقول بأن تونس هي وطني كما فلسطين موطني، ولها في القلب محبة خالصة. وقد زرت تونس لأول مرة في حياتي سنة 1987 عندما استضافني المسرحي الكبير توفيق الجبالي لعرض مونودراما «المتشائل» في اقتباس عن رواية إميل حبيبي. "
أفضل ممثل في مهرجان "كان"
على شاشة السينما الروائية، قدّم محمد بكري أدوارا لا تُنسى. من "من وراء القضبان" إلى "حيفا" و"برايفيت" و"تحت أقدام النساء"”، وصولا إلى فيلم «واجب» لآن ماري جاسر، حيث جسّد شخصية "أبو شادي" في دور معقّد، متناقض. هو أب يختلف سياسيا مع ابنه، لكنه يشبهه في الحب والقلق والخسارة. ذلك الدور، الذي اعتبره من أصعب وأصدق أدواره، نال عنه تقديرا عالميا، وتُوّج بجائزة أفضل ممثل على هامش مهرجان "كان". في هذا الفيلم الذي تدور أحداثه في «الناصرة»، يتقاسم محمد بكري مع ابنه البكر أدوار البطولة في دور أب وابن يتجوّلان على متن سيارة بين بيوت الجيران والأحباب لتوزيع يدا بيد دعوات حفل زفاف ابنة العائلة. وكما تتجلى من بيت إلى آخر هواجس سكان الناصرة فإن العلاقة ما بين الأب والابن تتوّضح أكثر فأكثر لتكشف عن خلاف وصدام بين جيلين يحملان مواقف سياسية مختلفة من القضية الفلسطينية.
وكان آخر ظهور سينمائي لمحمد بكري عام 2025 في الفيلم الفلسطيني البلغاري «كل ما تبقى منك»، عمل سياسي إنساني يحكي، مرة أخرى، عن العائلة الفلسطينية التي تجد نفسها في قلب الاحتجاج والذاكرة والنضال. فكأن الدائرة اكتملت، وعاد بكري إلى حيث بدأ: الإنسان أولا.. الإنسان أخيرا.
في عام 2020، اختارته وزارة الثقافة الفلسطينية شخصية العام الثقافية، تكريما لمسيرة لم تفصل يوما بين الفن والموقف. كان يقول إنّ السينما الجيدة تخدم القضية الفلسطينية أكثر من الخطب والسفراء، وإنّ الفن قادر على تحرير الإنسان من الجهل والزيف، لأنّ الفن… حياة.
لم يسلم محمد بكري من الاتهام بالتطبيع، وحورب من العدو، وطعن من القريب، لكنه ظل واقفا، يردّ بالتجاهل، وبمزيد من الإبداع. لم يكن يبحث عن إجماع بقدر ما كان يبحث عن الصدق. كان يساريا بالمعنى الإنساني للكلمة، منحازا لكل مقاومة، ولكل حق في الحرية.
رحل محمد بكري، لكن أفلامه ستبقى تُعرض على الشاشات، وتحدّث الجمهور عن وطن جريج. وستظل كاميرا محمد بكري حية وشهادة عن ملحمة أجيال رفعت صوتها في وجه العالم : هنا فلسطين… وهنا إنسان يستحق الحياة !
مؤطر :
محمد بكري لـ"المغرب" في حوار سابق:
أتمنى أداء دور أب تونسي في فيلم تونسي
سبق وأن التقت "المغرب" محمد بكري في حوار شامل، وكان من بين ما قال في هذا اللقاء وفي ركن "دون مجاملة" أنه يتمنى تجسيد شخصية أب تونسي في فيلم تونسي. لكن رحل محمد بكري دون أن يجد هذا النداء طريقا إلى آذان المخرجين التونسيين! وفي ما يلي إجابته على أسئلة مختصرة تستدعي ردا مختصرا:
• هل حققت أهمّ أحلامك؟
أحلامي الصغيرة نعم... ويبقى تحرير فلسطين حلمي الأكبر.
• دور تتمنى أن تلعبه؟
شخصية أب تونسي في فيلم تونسي.
• ما هو أفضل أفلامك ؟
هو ذلك الذي لم أنجزه بعد...
• أقرب الزعماء إليك ؟
الحبيب بورقيبة لأنه أكثرهم عقلانية ومسؤولية...
• ماذا تعني لك تونس؟
أشتاق إلى تونس وأنا فيها...