Print this page

فتح الحسابات بالعملة للمقيمين بتونس: خطوة متأخرة أم حجر أساس لتحرير اقتصادي أوسع؟

في لحظة سياسية واقتصادية فارقة صادق البرلمان التونسي

على الفصل المتعلق بالسماح للتونسيين المقيمين داخل البلاد بفتح حسابات بالعملة الأجنبية، بعد أن سقط في مناسبات سابقة تحت ضغط الحذر المالي والمخاوف من تسريع وتيرة تهريب العملة. هذا التحوّل التشريعي، وإن تأخر سنوات، يفتح الباب أمام أسئلة معمّقة حول مستقبل السياسة النقدية في تونس، وقدرة البلاد على التحرك من دائرة «الانغلاق العملي» إلى فضاء أكبر من المرونة والانفتاح.

من منع تاريخي إلى بداية التحريك لماذا بقيت تونس خارج هذا المسار؟؟

على مدى عقود، تمسّكت تونس بمنظومة رقابية ضاغطة في التعامل بالعملة الصعبة، خوفاً من تآكل الاحتياطيات، ومن توسّع اقتصاد الظلّ. ففي الثمانينات والتسعينات، بنيت السياسة النقدية على مبدأ مركزي يتمثل في الحفاظ على العملة قبل تحريرها. هذا الخيار، رغم أنه وفّر استقراراً نسبياً، خلق مع الوقت تشوّهات هيكلية مثل ضعف الاندماج المالي، ومحدودية الأدوات الاستثمارية، وانتشار السوق السوداء للعملة.

نموذج “الحماية”

كانت تونس تضغط على التعامل بالعملة الصعبة وكيفية تداولها في السوق و تراهن على نموذج “الحماية”، وتضع حدا لشبكات التحويل غير الرسمية التي تنمو أكثر من الاقتصاد الرسمي ذاته بهدف ترشيد التجاوب واحترام القوانين المنظمة للعمل والسوق النقدية ومن جهتها سمحت المغرب مثلاً منذ سنوات بفتح حسابات بالعملة للمقيمين، بشروط تتعلق بأهداف واضحة مثل تمويل التجارة الإلكترونية، السفر، الاستثمارات الصغرى… والنتيجة كانت ارتفاع حجم التحويلات القانونية ونقص الضغط على السوق الموازية.
وهنا يطرح السؤال لماذا يُعدّ هذا القرار اليوم أكثر ضرورة من أي وقت مضى؟

تونس تجد نفسها اليوم في قلب أزمة سيولة مزمنة بالعملة الصعبة، مع ضغوط خارجية متصاعدة، وخيارات اقتصادية محدودة. وفي سياق عالمي يتجه نحو تحرير الخدمات المالية وربط الاقتصادات ببعضها، يصعب على دولة تسعى لجذب الاستثمار أن تبقى بنظام مالي شبه مغلق.

مكاسب مباشرة
يجزم اغلب المؤؤدين والخبراء في السوق النقدية ان إجراء فتح الحسابات بالعملة للمقيمين يحمل مكاسب مباشرة، من بينها، إعادة تدوير العملة الصعبة داخل البنوك بدل تهريبها للسوق الموازي وتحسين قدرة الشركات الناشئة والمستثمرين الشباب على التعامل مع منصات الدفع العالمية بالإضافة إلى تقليص التدفقات غير الرسمية التي تصل في بعض التقديرات إلى مستويات توازي 40% من التعاملات الحقيقية وتعزيز ثقة المواطن في النظام البنكي الذي يعاني من ضعف الثقة وضعف تنويع المنتجات.
لكن هذا الانفتاح قد يتحول إلى عبء إذا لم يُرفق بإصلاحات هيكلية في الرقابة، وتسهيل إجراءات التحويل والخلاص، وإعادة مراجعة قوانين الصرف التي تعود في أغلبها إلى السبعينات والثمانينات.

بين التحرير والانضباط هل تونس جاهزة؟

تُظهر التجارب المقارنة أن السماح بفتح حسابات بالعملة لا يمكن أن ينجح في بيئة مالية غير مؤهلة.
في تركيا، مثلاً، أدى التوسع السريع في الحسابات الدولارية إلى ظاهرة تسمى "دولرة الاقتصاد" ، ما أفقد البنك المركزي أدوات السيطرة على السياسة النقدية. وفي مصر، بين 2014 و2016، خلقت الفجوة بين السعر الرسمي والسوق السوداء موجة دولار كبيرة داخل الحسابات البنكية، انتهت بتعويم اضطراري.
ومن خلال التجارب المقارنة يمكن استخلاص بعض الدروس الواضحة من بينها ان التحرير دون إصلاح ضريبي ورقابي يضرب الاستقرار والانفتاح دون ثقة في المؤسسات يخلق طلباً على العملة بدل جلبها وغياب رؤية اقتصادية شاملة يحول الإجراءات إلى مجرّد مسكنات قصيرة المدى.
وتونس اليوم أمام الاختبار ذاته هل تتجه نحو تحرير مدروس أم نحو تجزئة القرارات دون إطار شامل؟

الرهان على إعادة التوازن

أكبر مكسب محتمل للقرار الجديد هو ضرب السوق الموازي للعملة التي أصبحت اقتصاداً قائماً بذاته، يموّل الاستيراد، ويوجّه الأسعار، ويُضعف الدولة.
فتح الحسابات بالعملة يخلق قناة رسمية آمنة لجذب هذه التدفقات. وإذا ما تمّ إسناده بإجراءات حديثة مثل رقمنة التحويلات وتسهيل الدفع الإلكتروني الدولي ومنح حوافز ضريبية للمؤسسات المتعاملة بالعملة وتوفير منتجات مالية مبتكرة للمواطن ين.
تونس يمكن أن تقلّص حجم السوق السوداء بشكل ملموس، كما حدث في المغرب والجزائر مؤخراً بعد رفع سقف المعاملات الرسمية بالعملة فهل يكفي القرار وحده؟ الإجابة بكل وضوح ان فتح الحسابات هو خطوة مهمة، لكنه جزء صغير من إصلاح أكبر ودون مراجعة شاملة لقانون الصرف، وتبسيط المعاملات البنكية، وتقليص البيروقراطية، وتحسين مرونة السياسة النقدية، سيبقى القرار دون تأثير فعلي.
تونس تحتاج اليوم إلى خارطة طريق واضحة نحو تحرير تدريجي ومدروس للمعاملات المالية، يرافقه تحديث في أدوات الرقابة، وتطوير البنوك، وإعادة بناء الثقة بين المواطن والدولة.

خطوة صغيرة في طريق طويل

المصادقة على فتح الحسابات بالعملة للتونسيين المقيمين داخل البلاد ليست مجرّد فصل قانوني. إنها رسالة سياسية واقتصادية مفادها أن تونس بدأت تدرك أن النمو لا يصنع في اقتصاد مغلق، لكنّ نجاح هذه الخطوة لن يُقاس بما تمّ تمريره تحت قبّة البرلمان، بل بما ستفعله الحكومة والبنك المركزي والقطاع البنكي في الأشهر القادمة فهل يتم البناء على القرار؟ أم يظل خطوة معزولة تُضاف إلى سلسلة قرارات بلا أثر؟
تونس اليوم أمام فرصة، وربما أمام منعطف.
والسؤال الحقيقي هو هل نحسن استغلالها… أم نعيد إنتاج أخطاء الماضي؟

 

المشاركة في هذا المقال