وحدتها المفقودة هو هل تشكل هذه الثورة للجنوب عودة لتحالف عدم الانحياز الذي مكنها من الالتقاء
خلال قرابة ثلاثة عقود منذ منتصف الخمسينات إلى بداية الثمانينات دافعت عن مصالحها والمطالبة بإصلاحات جذرية للنظام الاقتصادي العالمي .
- ولادة حركة عدم الانحياز وبروزها
ظهرت حركة عدم الانحياز في مؤتمر "باندونغ" في اندونيسيا سينة 1955 والذي دعا اليه الزعماء جمال عبد الناصر وجوزيب تيتوا رئيس يوغسلافيا وجواهر لال نهرو رئيس وزراء الهند وسوكارنو رئيس اندونيسيا .
وقد حضرت في هذا المؤتمر 30 دولة من افريقيا واسيا .وقد شكل هذا المؤتمر نقطة انطلاق لتحالف سياسي هام للبلدان التي تحصلت على استقلالها حديثا وبعض ممثلي حركات التحرر الوطني التي كانت تناضل ضد الاستعمار .
وعمل هذا التحالف الجديد على تجنب الاصطفاف على احد قطبي الحرب الباردة : الولايات المتحدة من جهة والاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي من جهة ثانية .وقد لعبت هذه القوة الثالثة دورا كبيرا في المحافظة على التوازن بين القطبين وتفادي تحول توازن الرعب بينهما الى حروب طاحنة .وساهم هذا المعسكر في الحفاظ على السلم العالمية في ظل عالمي متوتر زاده السباق نحو التسلح وخاصة نحو السلاح النووي الكثير من الخوف والذعر .
وشهد تأثير معسكر دول عدم الانحياز الكثير من التطور والنمو اصبحت معه دول الجنوب او العالم الثالث كما كانت تسمى قوة فاعلة في النظام العالمي .
وتأكد هذا التأثير خاصة في السبعينات عندما أضافت هذه المجموعة الى اهتماماتها السياسية التقليدية مطالب اصلاح النظام الاقتصادي العالمي .ففي مؤتمر الجزائر في سبتمبر سنة 1973 تبنت دول عدم الانحياز برنامج إصلاحات اقتصادية تمت تسميته "النظام الاقتصادي العالمي الجديد "او "Nouvel ordre économique mondial" وسيتم تبني هذا البرنامج من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة في 1 ماي 1974.كما حظي هذا البرنامج بموافقة عديد المنظمات الدولية الأخرى كجامعة الدول العربية ومنظمة الوحدة الإفريقية .
واعتبر هذا البرنامج ان اصلاح النظام الاقتصادي العالمي والحد من التفاوت والفجوة بين البلدان الرأسمالية وبلدان العالم الثالث لنجاح التنمية وفك اغلال الهيمنة الاستعمارية .
وقد شملت مطالب الإصلاح التي قدمتها دول عدم الانحياز عديد المجالات ومن ضمنها التجارة العالمية وتحويل التكنولوجيا وتمويل التنمية ودور الشركات الراسمالية الكبرى .وشكلت هذه المطالب والنظام الاقتصادي العالمي الجديد محورا لتعبئة بلدان عدم الانحياز في المؤسسات الدولية ضد اقطاب النظام وخاصة البلدان الرأسمالية المتقدمة والتي كانت رافضة لهذه الاصلاحات .
شكلت منظمة دول عدم الانحياز قوة ضغط كبيرة منذ بروزها في نهاية الخمسينات الى بداية الثمانينات في النظام العالمي .وعملت هذه المجموعة من الناحية السياسية على المحافظة على السلم والاستقرار العالمي وإدخال اصلاحات هامة على النظام الاقتصادي العالمي .
الا ان هذا التأثير سيتراجع بصفة كبيرة في بداية الثمانينات لتعود هيمنة البلدان الرأسمالية مع الثورة النيوليبرالية التي سيشهدها العالم .
- في أزمة منظومة عدم الانحياز
عرفت حركة عدم الانحياز تراجعا كبيرا في بداية الثمانينات وشهد تأثيرها السياسي انحسارا كبيرا مقارنة بالستينات وخاصة السبعينات اذ دخلت هذه الحركة مرحلة التراجع التهميش في العلاقات الدولية .
ولفهم اسباب تراجع حركة عدم الانحياز يمكن لنا ان نشير الى اسباب سياسية واقتصادية .
في الجانب السياسي شكلت التناقضات الداخلية بين اللبدان الأعضاء عاملا أساسيا فقي هذه الازمة لعبت دورا كبيرا في وهن الحركة منذ ولادتها .والى جانب الاختلافات في المشارب الإيديولوجية والسياسية لأغلب بلدان العالم الثالث فبالرغم من انتمائها الى منظومة عدم الانحياز كان لها تقارب و تحالفات مع احد قطبي الحرب الباردة .ولعل المثال الكوبي اكبر دليل على تأرجح عديد دول هذه المجموعة بين عدم الانحياز والاصطفاف وراء احد قطبي الصراع .ومع تزايد العنف والصراع بين اطراف الحرب الباردة تقلصت قدرة دول مجموعة عدم الانحياز على المحافظة على نفس المسافة من القطبين.وشكل الغزو السوفياتي لأفغانستان الضربة القاضية لما تبقى من الوحدة الشكلية لمجموعة عدم الانحياز حيث اسصطفت عديد الدول وراء الموقف السوفيتي وتدعمت التدخل بينما وقفت دول اخرى وراء الموقف الغربي ونددت بالتدخل السوفياتي .
ولا تقف الأسباب السياسية حركة عدم الانحياز على علاقات دول هذه المجموعة وبقطبي الحرب الباردة بل تهم كذلك التحول والتغييرات الكبيرة التي عرفها العالم الرأسمالي في بداية الثمانينات واليت ستشكل قطيعة كبيرة في التجربة السياسية لهذه البلدان .فمنذ نهاية الحرب العالمية الثانية هيمنت الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في اغلب البلدان الرأسمالية والتي الى جانب اختياراتها الكبرى في المجال السياسي والاقتصادي فقد أعطت الأفضلية للتفاوض والمشاركة في ادارة العلاقات الاجتماعية وكذلك في العلاقات الدولية وخاصة منها بلدان العالم الثالث في سبعينات القرن الماضي .فالبرغم من رفضها لعديد مطالب دول عدم الانحياز خاصة في المجال الاقتصادي فقد فتحت البلدان الرأسمالية عديد الاطر للتفاوض والنقاش ومحاولة الوصول الى توافقات حول عديد القضايا .
الا ان هذا الوضع شهد تغييرا جوهريا في بداية ثمانينات القرن الماضي مع ازمة الاشتراكية الديمقراطية وهزيمتها وانتصار القوى اليمينية والمحافظة في اغلب البلدان الرأسمالية وبصفة خاصة في بريطانيا مع وصول تاتشر للسلطة في الولايات المتحدة الأمريكية مع انتخاب ريغن.وقد أشارت هذه القوى السياسية الى أن أسباب أزمات البلدان الرأسمالية تكمن في جملة الاختيارات الاقتصادية والاجتماعية لدولة الرفاه .وسترتكز برامجها على القطع مع دولة الرفاه من خلال برنامج نيوليبرالي يسعى الى الاعتماد على اقتصاد .
إلا ان خصوصية هذه المرحلة الجديدة في التاريخ السياسي لبلدان الرأسمالية لا تتوقف على البرنامج الاقتصادي والاجتماعي بل تهم كذلك المنهجية وطرق العمل .فقد اختارت هذه القوى السياسية القطع مع المنهجية التشاركية وانتاج منهجية صدامية وعنيفة .وقد اتبعت هذه المنهجية على المستوى الداخلي على مستوى علاقاتها مع النقابات والقوى الاجتماعية في فرض اصلاحات كبرى وخاصة خوصصة مؤسسات القطاع العمومي مما نتاج عنه إضرابات طويلة مثل إضرابات المناجم في بريطانيا والذي دام اشهرا طويلة وانتهى بهزيمة النقابات .
ولم تتوقف هذه المنهجية العدائية والصدامية على المستوى الداخلي بل امتدت كذلك الى النظام الدولي في مستوى علاقة البلدان الرأسمالية بالمعسكر الاشتراكي وبلدان العالم الثالث .فمع المعسكر الاشتراكي دخلت البلدان الرأسمالية في سباق نحو التسلح في برامج عسكرية مختلفة ومن ضمنها حرب النجوم والتي ادت بعد سنوات الى سقوط جدار برلين وانهيار هذا المعسكر .وستكون السياسة الصدامية والهجومية قاعدة التعامل مع بلدان العالم الثالث ورفض اي إصلاحات للنظام الدولي .
الى جانب هذه الأسباب السياسية يجب ان نقف على الاسباب الاقتصادية التي لعبت دورا كبيرا في تراجع مجموعة عدم الانحياز وتهميشها على مستوى النظام العالمي .
يهم السبب الأول على المستوى الاقتصادي فشل برامج التحديث الاقتصادي في اغلب بلدان العالم الثالث والتي وضعتها الدول للخروج من التبعية للمركز الرأسمالي والقطع مع اقتصاد الريع المهيمن في اغلب البلدان .إلا إن اغلب هذه البرامج لم تنجح في بناء هياكل واقتصاديات جديدة ومتنوعة وذات قدرة تنافسية عالية .وقد كان لهذا العجز الاقتصادي وضعف بلدان العالم الثالث تأثير كبير على قدرتها التفاوضية على المستوى العالمي وساهمت بالتالي في انحسار مجموعة عدم الانحياز .
وكانت أزمة المديونية التي انطلقت في اوت 1982 في المكسيك الضربة القاضية لمطامح وآمال العالم الثالث في بناء عالم متوازن منفتح على اختياراتها وبرامجها الاقتصادية .
وقد فتحت هذه الأزمة بلدان العالم الثالث على مصراعيها لتطبيق سياسات البنك العالمي وصندوق النقد الدولي لتكون برامج التعديل الهيكلي نافذة لانفتاح هذه البلدان وانخراطها في العولمة النا\سة والتقسيم العالمي للعمل والابتعاد نهائيا عن أهداف منظومة عدم الانحياز.
وقد لعبت هذه الأسباب السياسية والاقتصادية دورا أساسيا في فشل الحلم الجمعي لبلدان عدم الانحياز في تأسيس توازن عالمي جديد يسمح لها بالخروج من الهيمنة السياسية والتبعية الاقتصادية.وسيكون هذا الفشل وراء تهميش منظومة عدم الانحياز وتراجع تاثيرها.
إلا أن عودة الروح للجنوب المعولم في الأشهر الأخيرة ورفض عديد البلدان الاصطفاف وراء المعسكر الغربي في الحرب الدائرة في أوكرانيا الى التساؤل هل ان هذه الثورة عودة لمنظومة عدم الانحياز .
- هل نحن بصدد اعادة تأسيس منظومة عدم الانحياز ؟
اتجهت أولى التحاليل والقراءات لفهم الثورة المفاجئة للجنوب المعولم الى اعتبارها إعادة احياء لمنظومة عدم الانحياز التي وحدت بلدان العالم وكانت حاولت التأسيس لتوازن عالمي جديد.
وسرعان ما تراجعت هذه التحاليل لسببين على الاقل .اما السبب الأول فيهم طبيعة هذه الانتفاضة لعدد كبير من بلدان الجنوب وهي بقيت في مستوى توافق ظرفي ولم تصل الى التحالف الواسع والاستراتيجي الذي كانت عليه مجموعة عدم الانحياز .
أما السب الثاني والذي يفسرا ابتعاد هذه التحاليل عن فرضية عودة منظومة عدم الانحياز فيهم الاختلاف الكبير بين عالم الامس وعالم اليوم .
فقد ظهرت منظومة عدم الانحياز في عالم القطبية الثنائية الذي ظهر اثر الحرب العالمية الثانية وعرف العالم الحرب الباردة .وقد عملت هذه المجموعة على ايجاد توازن بين قطبي الحرب الباردة لتفادي تحول صراعهما الى حرب عالمية جديدة .الا ان عالم اليوم يختلف بطريقة راديكالية عن عالم الحرب الباردة وبالتالي لا يمكن الحديث عن عودة لمنظومة عدم الانحياز لفهم استراتيجيات بلدان الجنوب المعولم وثورتها .
لفهم ثورة بلدان الجنوب المعولم ولقراءة إستراتيجيتها لابد لنا من العودة لتطور النظام العالمي واهم التشكيلات التي أخذها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية .
ويمكن لنا في هذا الاطار ان نشير الى ثلاث تشكيلات كبرى للنظام العالمي .الأولى هي نظام القطبية الثنائية الذي ورثناه من الحرب العالمية على المنظومة الليبرالية والديمقراطية مكن جهة والاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي من جهة ثانية .اما النمط الثاني للنظام العالمي فهو نظام القطبية الأحادية والذي ظهر اثر سقوط جدار برلين سنة 1989 وانهيار
الاتحاد السوفياتي لتصبح الولايات المتحدة الأمريكية القوة المهيمنة على العالم .
أما النمط او التشكل الثالث فهو الذي نعيشه اليوم والذي يتميز بتعدد الأقطاب والذي بدا في الظهور منذ بداية الالفية .وقد ساهمت الأزمات المتتالية للعولمة من جهة والتطور الكبير الذي عرفته البلدان الصاعدة في تدعيمه وتثبيته .
وقد عرفت بلدان الجنوب وضعيات مختلفة في كل هذه التشكلات من عدم الانحياز في عالم القطبية الثنائية إلى لانخراط في العولمة في عالم القطبية الأحادية الى محاولة التحرر في عالم القطبية المتعددة .
ويرى الكثير من المحللين الغربيين الى عالم اليوم والقطبية المتعددة ان ذلك سيقود الى حالة كبيرة من المخاطر وعدم الاستقرار وبالتالي يحبذون العودة الى العالم الأحادي تحت الهيمنة الأمريكية فإن هذا التحليل لا يستقيم على العكس من ذلك فإن هذه التعددية ستفتح هامشا كبيرا من الحرية بلدان الجنوب المعلوم كما نراه اليوم.
وينمكن في هذا الإطار ان نشير الى أربعة مسائل أساسية يمكن ان تجعل من العالم المتعدد الأقطاب ملائما لبلدان الجنوب ولخروجهم من العالم الاحادي الذي عرفناه لأكثر من عقدين .
وتهم المسالة الأولى قضية الاستقرار والسلم التي يشير اليها المدافعون عن العالم ذو القطبية الثنائية او الأحادية باعتبار ان سيطرة قوتين او قوة عظمى على النظام العالمي ستنساهم في توازنه واستقراره .
إلا ان التجربة التاريخية اثبتت العكس فقد عرف العالم عديد الحروب في القطبية الثنائية وفي القطبية الاحادية ومن ضمنها الحرب في العراق وأفغانستان و البلقان .
أما المسالة الثانية فتهم الخاصية الأساسية لتعدد القطبية في النظام العالمي وتهم توزيع السلطة (diffusion du pouvoir) والتنافس الذي سيبرز بين مختلف الأقطاب مما سيجعلها غير قادرة على فرض مواقفها عنوة على الدول الأخرى .
كما ان التنافس بين مراكز القوى والدول الكبرى في العالم المتعدد الاقطاب سيدفعها الى التعاطي مع مطالب الجنوب المعولم وعدم رفضها بغطرسة وغرور كما كان الشأن في السابق.
كما يفتح العالم المتعدد الاقطاب هامشا كبيرا من الحرية لبلدان الجنوب المعلوم في عديد المجالات ومن ضمنها المؤسسات الدولية حيث ستتحول من ممارسة مستوى عال من الخطط لفرض إصلاحاتها وآرائها.
لقد أثبتت التجارب التاريخية كذلك ان القوى العظمى يمكن ان تتحد في هذه الأنظمة المفتوحة لفرض أرائها ومصالحها كما كان الشأن اثر نهاية الحرب العالمية الثانية عند اختيار الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن او في تنظيم وضبط موازين القوى داخل مؤسسات "بويتون وود ز "اي البنك الدولي وصندوق النقد .
يعيش العالم تحولات كبرى فتحت مجالات جديدة للجنوب المعولم دفعته للخروج من هيمنة القطب الواحد ومحاولة تأسيس توازن جديد للنظام العالمي اكثر عدالة وانفتاحا على مطالبه وآماله وأحلامه .وكانت الحرب في اوكرانيا نقطة انطلاق لتشكل جديد لبلدان الجنوب المعولم ومطالبتها باصلاحات جدية وحقيقية للنظام العالمي .الا ان هذه الثورة لبلدان الجنوب لا تؤسس للعودة لمنظومة عدم الانحياز .وفي نفس الوقت أعطت هذه اللحظة التاريخية الفاصلة نفسا جديدا لمنظومة "البريكس".
والسؤال الذي يطرح نفسه هو هل ستنجح منظمة" البريكس" في تحقيق ما فشلت فيه منظمة عدم الانحياز ؟