• ثورة الجنوب المعولم على النظام العالمي
كان الاعتقاد راسخا عند أقطاب المعسكر الغربي ان اندلاع الاجتياح الروسي لأوكرانيا يوم 24 فيفري 2022 ستكون وراء هبة أممية لكل دول العالم من اجل الوقوف ضد الحرب والتنديد بالاعتداء الروسي على أوكرانيا .وقد حاولت القوى الكبرى ان تكون هذه الحرب فرصة لا فقط للتنديد بالاعتداء الروسي على اوكرانيا بل كذلك فرصة لحشد الأنصار ضد تنامي الانظمة السلطوية والمد الشعبوي في العالم والدفاع على الديمقراطية الليبرالية وتمكنيها من استعادة أنفاسها .
فقد صرح الرئيس الامريكي جو بايدن في احدى خطاباته اياما بعد بداية الحرب «لقد عرفت الديمقراطية في العالم بضعة اشهر تقدما سريعا في تحقيق وحدتها وتضامنها في وقت اسرع بكثير من الماضي «.وفي نفس الاتجاه أشار رئيس اوكرانيا فلودومير زيلسكني في الذكرى الاولى لاندلاع الحرب «إن أوكرانيا وحدت العالم «.
الا ان الوقائع كانت تحت انتظارات القوى العظمى واقطاب المعسكر الغربي .وقد أتت المفاجاة الكبرى من اغلب بلدان الجنوب التي اخذت موقفا محايدا اصطف وراء الموقف الأمريكي والأوروبي للتنديد بالاعتداء الروسي على أوكرانيا .وقد برز هذا الموقف بصفة خاصة في الامم المتحدة عند التصويت على القرارات التي قدمها المعسكر الغربي .
فبعد ثلاثة ايام من بداية الحرب وعندما طلبت الولايات المتحدة وفرنسا عقد اجتماع عاجل للجمعية العامة احتفظت دولة الإمارات العربية بصوتها بالرغم من العلاقات الوثيقة خاصة في المجال العسكري التي تجمعها بواشنطن .
وفي اجتماع الجمعية العامة للامم المتحدة في 2 مارس 2022 قررت 30 دولة ومن بينها الصين والهند و17 دولة افريقية ومن ضمنها الجزائر وإفريقيا الجنوبية الاحتفاظ بأصواتها ورفض الموافقة على قرار يدعو روسيا «الايقاف الفوري لاستعمال القوة ضد أوكرانيا».
وتواصلت مواقف بلدان الجنوب في نفس الاتجاه ورفضت الاصطفاف وراء قرارات اقطاب المنظومة الغربية في عديد المحافل الدولية .فمنذ انطلاق الحرب وفي مناسبات مختلفة امتنعت قرابة 40 دولة وبطريقة مستمرة عن التصويت لفائدة لوائح تدين الاعتداء الروسي على أوكرانيا.وفي افريل 2022 امتنعت 58 دولة من التصويت على لائحة لطرد روسيا من مجلس الامم المتحدة لحقوق الانسان .ولا تنتمي كل هذه الدول لما اسماه المعسكر الغربي لمحور الانظمة الاستبدادية الموالية بروسيا والصين والتي تناهض المحور الديمقراطي والذي يضم بلدان المعسكر الغربي .ونجد ضمن هذه الدول من بلدان الجنوب والتي رفضت الاصطفاف وراء اقطاب النظام العالمي ديمقراطيات عريقة مثل الهند وإفريقيا الجنوبية والبرازيل .
ومن الناحية السياسية تكمن اهمية البلدان التي اخذت موقفا محايدا من حجمها الجيوستراتيجي والديمغرافي .فقد أشارت بعض الدراسات الى ان البلدان التي اخذت موقفا مساندا لروسيا او محايدا في هذه الصراعات تمثل ثلثي سكان العالم .
أثارت مواقف بلدان الجنوب في هذا الصراع الكثير من الاستغراب والاستنكار من لدن قادة المنظومة الغربية في الاشهر الاولى من انطلاق الحرب .الا هذا الاستغراب سرعان ما تحول الى غضب وحنق ضد بلدان الجنوب .
فقد أشار الرئيس الفرنسي فرانسوا ماكرون في خطاب شديد اللهجة اثناء زيارته الرسمية للكاميرون في جويلية 2022 الى نفاق (hypocrisie) القادة الافارقة وضرورة ان «نسمي الأشياء بمسمياتها .فالحرب هي حرب ويجب ان نشير بوضوح الى من بدا بها».
ثم سرعان ما تحول هذا الغضب والحنق الى قبول بالامر الواقع والرضوخ والاستسلام له .حيث اشار الرئيس الفرنسي في ندوة ميونيخ حول الامن في فيفري 2023 الى «ان مستوى فقدان ثقة الجنوب المعلوم في النظام العالمي أصبحت شيئا صادما بالنسبة له».
وقد حاولت عديد الأوساط الغربية ادخال شيء من البلبلة وعدم الوضوح على مواقف بلدان النامية واعتبارها اصطفافا دوراء الموقف الروسي ودعمه في غزو أوكرانيا .الا ان القراءة المتأنية والدقيقة لتصريحات قادة بلدان الجنوب وبياناتهم تثبت ان مواقفهم هي اكثر توازنا مما تحاول بعض الأوساط الترويج له .فما عدا بعض الدول التي اصطفت وزراء روسيا فإن اغلب بلدان الجنوب المعولم وخاصة الكبرى منها كالصين والهند تعتبر دان روسيا بغزوها لأوكرانيا خالفت مبادئ اساسية في القانون الدولي كاحترام سيادة الدول وحرمة أراضيها ومبادئ القانون الدولي الانساني ومبدا عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول .بالرغم من مآخذها على روسيا في غزوها لأوكرانيا الا ان بلدان الجنوب المعولم رفضت الاصطفاف وراء أقطاب النظام العالمي والتنديد بالموقف الروسي .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه بشدة اليوم فيتعلق باسباب هذه الثورة للجنوب المعولم ورفضه الانصياع لارادة اقطاب النظام العالمي كما كان الشأن منذ أربعة عقود.
• في أسباب ثورة الجنوب
شكل موقف بلدان الجنوب المعولم إشكالا عويصا ومجالا للتفكير لدى عديد المؤسسات الدولية ومراكز التفكير وعقد الكثير من الدول وعند الكثير من الدوائر التي تهتم بمجال العلاقات الدولية .
وحاولت اغلب المساهمات في هذا النقاش العام فهم اسباب ثورة الجنوب ورفضه الانصياع وراء مواقف اقطاب النظام الدولي والمنظومة الغربية .
تعتبر اهم مساهمة في هذا الإطار ذلك العدد الهام الذي خصصته المجلة العلمية الاهم في العالم حول قضايا العلاقات الدولية والإستراتيجية وهي المجلة الأمريكية Foreign Policy اي السياسة الخارجية في عددها للثلاثي الثاني لسنة 2023 حول هذا الموضوع تحت عنوان «The nomaligned world-the west the rest and the new global desorder» او «العالم الغير منحاز –الغرب والبقية وفوضى العالم» وقد دعت عديد المفكرين والفاعلين من اهم بلدان الجنوب وخاصة البرازيل والهند وجنوب إفريقيا لالقاء الضوء وفهم الاسباب العميقة لهذه الثورة المفاجئة من بلدان كان اغلبهم حلفاء لأقطاب النظام العالمي .
والى جانب مكانة المجلة والمساهمين في هذا العدد الخاص تكمن اهميته في الخط التحريري الذي اتبعه والذي اشار الى ان الموقف المفاجئ لبلدان الجنوب لا يتوقف على الحرب الروسية في أوكرانيا بل يشير الى قضايا خلافية هيكلية اهم تخص النظام الدولي .وقد اكدت هذه المجلة ان موقف المنظومة الغربية لا يمكن له ان يقف عند نقد والغضب والحنق على بلدان الجنوب بل يجب ان يرتقي الى فهم الاسباب العميقة لهذا الاستياء والمرارة .كما اكد المشرفون على هذا العدد مسؤولية اقطاب النظام العالمي .على ضرورة ايجاد حلول وإجابات لمآخذ بلدان الجنوب حتى لا يتحول السخط والامتعاض الذي عبروا عنه الى مصدر جديد لعدم الاستقرار العالمي.
وقد مكنتنا القراءة المتأنية لمواقف بلدان الجنوب منذ اندلاع الحرب وحتى قبلها من التأكيد على اربعة مسائل اساسية تشكل جوهر مآخذ وانتقادات بلدان الجنوب للنظام العالمي .
وتهم المسالة الأولى مبادئ وقواعد النظام العالمي والتي عرفت في السنوات الأخيرة انحرافا واضحا لفائدة الغرب وتعميقا لعدم المساواة في العلاقات الدولية .
وأشارت في هذه الإطار عديد التحاليل الى بعض الاسئلة التي تتناقض مع مبدإ المساواة في العلاقات الدولية وحدود المروية الغربية حول النظام العالمي المبني على قواعد واضحة.
وقد أشارت هذه التحاليل الى سياسة المكيالين التي يعتمدها النظام العلمي حيث لم يلق التدخل الغربي في العراق وفي ليبيا وفي افغانستان نفس الرفض والنقد من قبل المنظومة الدولية .وتؤكد اليوم اغلب التقارير على ان التدخلات العسكر ية للمنظومة الغربية في هذه البلدان لم تساهم في اعادة بناء الاستقرار بل على العكس زادت من الفوضى والعنف .فقد لعبت هذه التدخلات وانتشار الأسلحة في تنامي الحركات الإرهابية في العراق وسوريا ومنطقة الساحل في افريقيا.
كما تناولت بلدان الجنوب بالنقد ادعاء بلدان الشمال حول دعمها للديمقراطية ومحاربتها للاستبداد والانظمة التسلطية من خلال مساندتها لأوكرانيا وتنديدها بالموقف الروسي .فقد اشارت بعض الدراسات الى ان الولايات المتحدة تواصل دعم الأنظمة التسلطية عندما تدافع على مصالحها حيث تمتعت 35 دولة بدعمها العسكري سنة 2021 من 50 دولة صنفتها مؤسسة Freedom house على انها ديكتاتورية .
أما المجال الثاني للنقد الذي وجهته بلدان الجنوب للنظام الدولي وأقطابه فتهم عديد المسائل والقضايا السياسية .وفي هذا المجال أشارت بعض الاصوات من الجنوب ومن ضمنها الرئيس البرازيلي ان الرئيس الأوكراني زيلسكني يتحمل نفس المسؤولية مع الرئيس بوتين في اندلاع الحرب .
كما أكدت بعض التحاليل ان الكثير من بلدان الجنوب المعلوم تعتبر ان روسيا تبقى قوة عظمى ومؤثرة في النظام الدولي بالرغم من الخسائر التي تكبدتها في الحرب وبالتالي تتفادى الدخول في صراع وخلافات معها .
كما لعبت الانعكاسات الاقتصادية للحرب وبصفة خاصة الارتفاع الكبير في اسعار المواد الفلاحية وبصفة خاصة اسعار الحبوب واسعار الطاقة دورا كبيرا في تفادي بلدان الجنوب احترام الحصار التجاري والاقتصادي الذي سنه أقطاب النظام العالمي على روسيا.
كما يمكن ان نشير الى التحولات الكبرى التي عرفتها الاختيارات الإستراتيجية للدول الكبرى ومن ضمنها كمما كان وراء بعض التذبذب في مواقفها .وقد دفع هذا الوضع عديد بلدان في الجنوب الحليفة التقليدية للمعسكر الغربي الى تنويع تحالفاتها والتقارب مع بعض القوى العالمية الاخرى ومن ضمنها روسيا .
ويهم المجال الثالث الذي يفسر امتعاض وسخط بلدان الجنوب المعولم فيهم القضايا الاقتصادية وانعكاسات الوضع العالمي على أزمات الجنوب .وقد ساهمت الأزمة الاقتصادية العالمية وبصفة خاصة انعكاسات جائحة الكوفيد 19 والحرب في روسيا في تدهور الأزمة الاقتصادية في بلدان الجنوب و بصفة خاصة أزمة المديونية التي عرفت نموا كبيرا وكان للتغيير الكبير في السياسات النقدية في البلدان المتقدمة من خلال الترفيع الكبير في نسب الفائدة انعكاس كبير على الأوضاع الاقتصادية في بلدان الجنوبحيث ساهمت في ارتفاع المديونية ووصول بعض البلدان إلى الإفلاس وعدم القدرة على احترام التزاماتها المالية.
وقد اعتبرت الكثير من بلدان الجنوب المعولم أن أقطاب النظام العالمي حددوا لفترة طويلة سياساتها الاقتصادية دون النظر إلى انعكاساتها ومحاولة التخفيض من تبعاتها السلبية عليها في اطار التعاون والتضامن لمختلف مكونات النظام الدولي.
كما شجبت بدان الجنوب المعولم رفض أقطاب النظام العالمي القيام بإصلاحات حقيقية للمؤسسات المالية العالمية كصندوق النقد الدولي والبنك العالمي لتوسيع تمثيليتها وتوسيع حضورها وقد جوبهت اغلب مقترحات بلدان الجنوب في هذا المجال بالإهمال أو الرفض.
وقد تواصلت هيمنة البلدان المتقدمة على النظام المالي العالمي منذ ولادته في قرية بريتون وودس (Bretton Woods ) في الولايات المتحدة الأمريكية اثر الحرب العالمية الثانية . أما المجال الرابع لامتعاض واستياء الجنوب المعولم فيهم عجز أقطاب النظام العالمي وفي بعض الأحيان رفضها القيام بمبادرات حقيقية وإصلاحات هيكلية لمواجهة الأزمات الكبرى التي يشهدها العالم كالأزمة المناخية والإنحباس الحراري والأزمات الإجتماعية فهاته الأزمات تتطلب بناء عقد إجتماعي وعالمي جديد يسعى إلى تحقيق نمو مستدام ومندمج- وقد شكلت هذه القضايا الأساسية مصدر استياء وغضب حول النظام العالمي خلال الأربع العقود الاربعة الأخيرة وقد عبرت منظمات المجتمع المدني والجمعيات والنقابات عن مواقفها بكل وضوح ووجهت نقدها الصريح للتوجهات الكبرى للنظام العالمي وضرورة القيام بإصلاحات كبرى لإيقاف التباين والفجوة بين البلدان المتقدمة وبلدان الجنوب المعولم وكانت الحرب الروسية في أوكرانيا النقطة التي أفاضت كأس الصبر والإنتظار عند بلدان وحكومات بلدان الجنوب المعولم لتتحول بدورها الى موقع الرفض والمطالبة بإصلاح جذري وحقيقي للنظام العالمي.
والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم : هل ستفتح ثورة الجنوب المعولم الباب لعودة حركة عدم الانحياز كإطار لتحالف هذه البلدان وتوحيد مواقفها من أجل تغيير النظام العالمي.
-يتبع-