قهوة الاحد تراجع الصناعة،الوجه الآخر للازمة الاقتصادية

عرفت بلادنا نقاشا عاما واهتماما كبيرا بالقضايا الاقتصادية والمالية بارتباط بالأزمة الخانقة التي نعيشها .

وقد صاحب هذا النقاش والجدل السبل والسياسات للخروج من هذه الازمة مع تحول كبير على مستوى اولويات النقاش العام .فقد تحول الاهتمام من القضايا الهيكلية كالوضع الصناعي والسياسات الفلاحية وغيرها من المسائل تدريجيا نحو التوازنات المالية الكبرى للدولة كالمالية العمومية وميزان الدفوعات والإصلاحات الاقتصادية الكبرى وذلك في علاقة بالمفاوضات مع صندوق النقد الدولي .
ويمكن أن نتفهم هذا التحول في أولويات النقاش بارتباط بالضغط الذي يسلطه الانزلاق الكبير للتوازنات المالية الكبرى على وضعنا الاقتصادي وسياساتنا العمومية .
إلا ان التحديات المتأتية من تآكل هياكلنا ومؤسساتنا الاقتصادية الموروثة من السبعينات تضغط بكل ثقلها على الاقتصاد الوطني حتى على توازناته الكلية .وقد جاءت الدراسة الهامة التي قامت بها ريم المولهي أستاذة الاقتصاد بالجامعة التونسية إلى جانب الباحثة رانيا المشرقي تحت عنوان" Desindustrialization and trade openness : the tunisian case" أو "تراجع الصناعة وانفتاح التجارة : المثال التونسي " لتذكرنا بأهمية التحديات الهيكلية مع تراجع التصنيع والذي كان قد لعب دورا أساسيا في تنويع الاقتصاد والخروج من النظام الاقتصادي الموروث من الفترة الاستعمارية .وقد تم نشر هذا البحث الهام منذ ايام من طرف منتدى البحوث الاقتصادية الموجود في القاهرة والذي يعتبر احد اهم مراكز البحوث والتفكير الاقتصادي في البلدان العربية .
وأول سؤال حاولت الباحثتان الإجابة عنه في هذا العمل هو تحديد مفهوم Desindus-trialisation والذي يمكن ان تترجمه إلى اللغة العربية تحت عنوان تراجع الصناعة او انحسار التصنيع
- في مفهوم تراجع الصناعة
عرف مفهوم تراجع الصناعة استعمالا كبيرا في السنوات الأخيرة في النقاش والبحوث الاقتصادية.وقد استعمله الكثير من الاقتصاديين عل المستوى العالمي مثل سبنج (singh) وداني رودريك (Dani Rodnick) وبالما (Palma) لفهم التحولات الهيكلية التي عاشتها اغلب بلدان العالم في السنوات الأخيرة وبصفة خاصة البلدان النامية .
وينخرط هذا النقاش حول موقع ودور الصناعة في الاقتصاد في إطار نظرية التطور الاقتصادي التي وصفها أباء الاقتصاد السياسي الكلاسيكي مثل دافيد ريكاردو(David Ricardo) وآدام سميث (Adam smith) وكارل ماركس وغيرهم والتي تشير إلى ان الدينامكية في الاقتصديات الحديثة تتحول تدريجيا من القطاع الزراعي إلى القطاع الصناعي ثم قطاع الخدمات .وقد عرفت اغلب بلدان العالم هذا التطور التاريخي منذ الثورة الصناعية في القرن التاسع إلى حدّ يومنا هذا .
وينخرط النقاش حول تراجع الصناعة في هذا الإطار العام الذي وضعه أباء الاقتصاد السياسي ويسعى الى دراسة وفهم موقع النشاط الصناعي وأسباب تطوره او تراجعه في الديناميكية الاقتصادية .وقد حدد الاقتصاديون مفهوم تراجع الصناعة بدقة في اشارة الى التراجع المستمر للأنشطة الصناعية في الناتج القومي الخام وفي التشغيل.
وقد حدد الاقتصاديون نوعين من تراجع الصناعة في البلدان .يهم النوع الأول ما نسميه بالتراجع الصناعي الايجابي والناتج عن تطور الإنتاجية والتغيير في الهياكل الاقتصادية والمرور من قطاع الصناعة الى الخدمات .وكان هذا التراجع مؤشرا على نجاح البلدان في تحقيق تحول اقتصاد عميق نحو ميزة تفاضلية أرقى وارتفاع كبير في الدخل الفردي .
أما النوع الثاني من التراجع الصناعي او ما أسمته الباحثتان بالتراجع الصناعي المبكر (premature desidustralisation) فهو الذي يبدأ مع مستوى ضعيف الدخل الفردي ولنسبة الصناعة في التشغيل والناتج الخام .وهذا التراجع مؤشر على فشل البلدان وخاصة منها النامية على القيام بالتغيير في هياكلها الاقتصادية والذي سمح لها بالوصول الى مستوى عال في الإنتاجية وتطوير قيمتها التنافسية .
وتختم الباحثتان الجانب النظري من هذه الدراسة بالتأكيد على ان التراجع الصناعي الايجابي مؤشر على نجاح التصنيع والوصول الى مستويات عالية من الإنتاجية والدخل الفردي بينما التراجع المبكر هو دليل على الفشل في التحول الاقتصادي والنمو .
وقد أشارت الدراسة الى عديد التجارب التي عرفت تراجعا ايجابيا كتجارب النمور الآسيوية وعديد المناطق التي عرفت تراجعا مبكرا مثل إفريقيا وعديد البلدان العربية وأمريكا اللاتينية .
- التراجع الصناعي الأسباب والانعكاسات
اهتم الاقتصاديون في السنوات الأخيرة بأسباب وانعكاسات التراجع الصناعي .وقد ساهمت هذه الدراسات والبحوث في إنارة هذه المسائل والتي قسمتها الباحثتان الى أسباب داخلية وخارجية .
في الأسباب الداخلية تشير الدراسة الى العديد من التطورات التي ساهمت في انحسار الصناعة ومن ضمنها تطور الدخل الفردي وتطور الطلب على المنتوجات من قطاع الخدمات مقارنة بالمنتوجات الصناعية .
كما تشير الدراسة الى تطور الانتاجية في القطاع الصناعي مما دفع الى تراجع اليد العاملة في القطاع .و يمكن ان نضيف الى هذه العناصر القدرة التنافسية للمؤسسات والتي تلعب دورا مهما في التراجع الصناعي الايجابي كما هو الشأن بالنسبة الى التراجع السلبي .
وأشارت الدراسات الى عديد العناصر الاخرى التي تساهم في التراجع الصناعي سلبا او ايجابا ومن ضمنها الاستثمار وقدرة الرأسمال البشري وانخراط البلدان في سلاسل الإنتاج العالمية .
كما اهتمت الدراسات بالانعكاسات الاقتصادية والمالية لتراجع الصناعة وخاصة بالنسبة للتراجع المبكر والذي اثر سلبا على مستويات النمو والقيمة التنافسية للبلدان ومستوى مشاركتها في التجارة الخارجية وخاصة التصدير وكذلك التشغيل والبطالة .
- حول تراجع الصناعة في بلادنا
شكلت هذه النقاشات النظرية مدخلا مهما للباحثتين للخوض في اشكالية تراجع الصناعة في بلادنا .وقد شكلت قراءة التحولات الهيكلية التي عرفتها الاقتصاد التونسي منذ 1960 الى 2021 نقطة انطلاق مهمة لهذه الدراسة .
وقد أشارت الباحثتان الى ان مساهمة الفلاحة في الناتج الوطني كانت اهم من مساهمة الصناعة في بداية الستينات .الا انها بدأت في التراجع مع انطلاق برامج التصنيع لتستقر الفلاحة على نسبة %10 من الناتج القومي و%14 من التشغيل اليوم .
وقد عرفت الصناعة مسارا مغايرا حيث بدأت بنسبة اقل من %20 من الناتج في بداية الستينات لتصل الى أعلى نسبة في نهاية السبعينات اي حوالي %57.الا أن القطاع عرف تراجعا كبيرا في الناتج الى %23 سنة 2019.كما عرف قطاع الصناعات التحويلية نفس الانحدار في السنوات الأخيرة من حيث مساهمته في الناتج وفي التشغيل.
و في نفس هذا المسار التاريخي عرف قطاع الخدمات تطورا كبيرا ليصبح القطاع الرئيسي في الاقتصاد من حيث مساهمته في الناتج والذي وصل الى %60 سنة 2019 او التشغيل والذي مثّل %52 من المجموع .
وقد وصلت الباحثتان الى ان هذا التراجع الصناعي اذا قارناه بتطور دخل الفرد فإنه يدخل من ناحية التحليل في خانة التراجع المبكر والذي يشير الى تآكل نمط التنمية المرتكز على الصناعات ذات الكثافة العمالية العالية وعجزنا على بناء نمط صناعي جديد .
ولعل الجانب الأهم في هذه الدراسة يخص الأسباب وراء التراجع الصناعي في بلادنا.وقد أشارت هذه الدراسة الى الجانب الايجابي للانفتاح التجاري وسعر الصرف على التصنيع في بلادنا .
وقد اشارت الدراسة إلى ان عديد العناصر لعبت دورا سلبيا على التصنيع في بلادنا وساهمت بالتالي في التراجع الصناعي المبكر ومن ضمنها الانتاجية ومستويات النمو والاستثمار والتعليم والابتكار ومسك التكنولوجيا .
ان أهمية الدراسة التي قدمتها الأستاذة ريم المولهي ورانيا المشرقي لا تتوقف فقط على قيمتها العلمية بل كذلك جاءت لتذكرنا بان الأزمة الاقتصادية والمالية في بلادنا لا تتوقف على جوانب التوازنات المالية الكبرى للدولة رغم أهميتها بل تهم كذلك تراجع وتآكل نسيجنا الصناعي بعد عقود من التنويع والاستثمار .
وفي رأيي يخطئ من يعتقد ان برنامج الإنقاذ الاقتصادي الذي لابد لنا من صياغته للخروج من هذه الأزمات يمكن ان يقتصر على الجوانب الاقتصادية الكلية والمالية بل لابد له ان يكون شاملا ويضيف الى هذه المسائل كل التحديات الهيكلية والقطاعية ومن ضمنها ضرورة تجديد إستراتيجية صناعية جديدة وطموحة تمكننا من الخروج من التراجع المبكر لصناعتنا .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115