كان العالم المزاحم يرصد اللحظة الفارقة ليتسرب عبر مساماتها المرئية والمسموعة وينفذ في الفضاء المؤجج من سقوف مثقوبة في المدينة..
هذه المدينة التي تقاسم المارين ملحها ومباهجها. وتتطلع للغيب الذي ترجوه مثخنا بالأمنيات المحققة
وتصغي لتقلبات الأحداث بآذان معدنية مثبتة على الأسقف وعلى الجدران.. منتشرة بعشوائية منفرة
إنها الحداثة وما تمليه علينا من بدائل, قد لا تحترم الخصوصية ولا تساير النمط الحياتي والعمراني للمدن
إنها اللاقطات الهوائية المثبتة بإحكام تترصد الشاردة والواردة ومشرعة كالأفواه الجائعة وفي استدارتها تبدو كالقباب.. تزاحمها في جمالياتها المعمارية ... المعيارية في تصنيف الطراز البنائي للمدن التونسية والمغاربية عموما.. وتبدو من نظرة علوية أشبه بكوم الفطر في حقول الياسمين ...
أحيانا لا يلتفت للقبح المستتر خلف الضرورات والحاجات ونتعايش معه في تقبل مفروض لتأثيراته السالبة لجماليات مدننا وأصالتها وعمقها الحضاري وتتشكل معه ألفة غير منطقية تفرضها سياقات الحداثة والمواكبة والانفتاح والتقبل ...
الفنان استثنائي في تنبؤاته وفي قراءته للأحداث وللمواقف وفي قراراته أيضا غير عابئ بما يقوم به الآخرون لأنه استثناء متمرد يمارس حريته بقوة الموقف وأصالته غير مستعجل ألوانه وأشكاله أن ترسم مشهدا ضبابيا لم تتضح معالمه بعد
مثل هذه الأوقات المربكة مسكونة بالترقب الحذر والخوف والنفور وبالهواجس العميقة المتداخلة بين السؤال واحتمالية المسايرة برسم موقف غير محسوب ومحسوم.
الفنانة دلال صماري التي بلغت من حكمة الفن وعمره عتيا في نظارة عمرها وذاكرتها المكتنزة على الكثير من القراءات والتأويلات والأفكار الاستشرافية تلزمها بالوقوف الحذر كي تتوضح الرؤى والمسارات .
وفي مشروعها الجمالي ترددات مفقودة تتفرد بالمسالك البديلة في معالجة الموقف بالتوظيف المتميز للأفكار وللخامات فتجعل من اللاقطات الهوائية فكرتها الأساسية ومادتها التي تشتغل عليها برغم صعوبة العمل على الحامل المعدني...
وتبقى دلال صماري متمسكة بالفكرة ومؤمنة بها ووفية لها ولمثل هذا النوع من الاشتغال الذي عودتنا عليه فهو يعيد الاعتبار إلى الأشياء المتلفة فتبحث عن ذاكرتها وجوهرها ومكنونها.
تقول دلال صماري: إن الشيء لم يخلق ليعيش حياة واحدة، الأشياء لها حياة ومهمات وبالتالي ذاكرة، إنها تموت مثل البشر وفي موتها تكمن العلل ... فموتها بداية حياة ووجود..
فبالنسبة لها أخذها من حيّزها المكاني والزماني ليكون لها حياة جديدة ومهمة أخرى وذاكرة أخرى.. كما تقول..
اكتفت دلال صماري بالقديم من لاقطات هوائية اكتملت مهماتها ووظائفها واختفت تردداتها ... ولم يكن اقتناؤها من سوق الخردة اعتباطا بل بدافع موجه ومقصود لتعزيز أفكارها وتضمين منجزها جانبا من تأثيرات البيئة والتلف الحاصل بها بسبب عوامل التصدأ ...
تسجل على مساحاتها المهترئة قراءاتها وتنبؤاتها وترسل رسائلها المشفرة بجمالية وحبك ذكي وإشارية عالية المعنى.. في عرضها الذي يتضمن خمسة عشر عملا يقارب في طريقة تقديمه التنصيبات المعاصرة بحضور وظيفي مستعار من الوظائف الأصلية للهوائيات المقعرة
وتعرض في تقابل مقصود يراد منه خلق حوارية فعالة بين العناصر والمحتويات الخطية الماثلة في تحلق مضاميني لا يقبل التفكيك أو التجزئة والاستغناء كوحدة جامعة للمعنى
وربما كانت تتجه نحو المزيد من المشهدية الأصلية لولا الزامات العرض في الأروقة الحكومية
واختيار موقع الرواق أيضا لم يكن عبثيا فهو امتداد لتفكير معمق يراد من خلاله أن يستدرج بشكل تلقائي عموم النازلين إلى السوق الشعبية المحاذية حيث حركة المارة تتقاطع مع هذا الوافد الجمالي الذي لا ينتبه له.. ويراد بذلك الانتباه.
جاءت ترددات مفقودة في محاولة استكمال الوظائف من خلال عملية تواصلية جديدة منبعثة من هياكل معدنية محالة إلى العدم والبحث فيها عن ترددات للوعي وقراءة الواقع بشكل أعمق .....
انه التنقيب عن تلك الموجات الضائعة والمنفلتة التي لم تسري تأثيراتها في بناء وعي. إنها قراءات أخرى موازية تريد دلال صماري من خلالها تقديم وجهة نظر المثقف المسكون
بحنكة الموقف وحكمة الفن وبالتفكير العميق والواعي في تتبع الأحداث فترصد من خلالها ترسانة إشارية من العلامات التي لها دلالاتها في المخيال التشكيلي وفي المخيال الجمعي بتأثيراتها البصرية الموجهة نحو فكر آخر ووعيي أعمق
إننا أمام منجزات دائرية تقرر شكلها الوظيفي من خلال شكل الهوائيات المقعرة لكنها انتقاء مقصود يشير إلى الكونية.. إلى الأرض وإلى الكواكب والشمس المنيرة والقمر الساطع مسبب حركة المد والجز والنجوم التي تهدي في العتمات.. أنها دالة على المدارات الملتفة ... حول كل التفاعلات الكونية السالبة والموجبة إنها ترسم صورة الحلقة لعلها أيضا مفرغة عندما ندور في فلك العدمية واللاجدوى.
ترتكز دلال صماري في صياغة محتوى بصري تشكيلي على أسس من التبسيط المقصود الدال على المعنى كما تعتمد على تحقيق قيم الفراغ باعتباره مكونا جيدا لأي محتوى بصري بالرغم من صعوبات التحكم فيه فتتقن القيام بذلك وتستدعي مختلف الأشكال الهندسية كالمربع والمثلث والمستطيل لوظائفها الجمالية والترميزية وفق ما تقتضي الحبكة التشكيلية
ترسم صورا لطوابير من الناس المترقبة أو المتحلقة حول حواف دائرية تماما مثل التحلق حول الموائد في ترقب وجبة ساخنة مؤجلة.. وتستدعي رسما مبسطا للحقيبة وللطائرة في رحلتها الأخيرة وراكبها الأخير..
تعمل على صلب أشخاص أو تعليق آخرين من رقابهم بالحبال في إشارات دالة على العقاب أو على الفداء فتصدر الأصوات طالعة من توهمنا من خلال الخطوط المفعمة بالتعبيرية الصارخة. وتستدعي صورة وجه آدمي عبوس بعيون غائرة تتعمد ترك الصباغات اللونية تتحدر مثل الدموع على الأجفان أو كالتعرق على هذا الوجه الشاحب..