في اغلب البلدان الديمقراطية ويلعبون دورا مهما في تنشيط الحياة الفكرية والثقافية من خلال كتبهم وإصداراتهم كذلك مقالاتهم في الجرائد والمجلات .وتزيد هذه المساهمات من عبق وسحر الحياة الديمقراطية وتفتح الآفاق الفكرية والسياسة لعموم المواطنين وانخراطهم في العمل السياسي والمواطني.
ويختلف الوضع في فرنسا اذ يكاد يشكل استثناء مقارنة بعديد البلدان الديمقراطية الاخرى .
هنا يمكن ان نشير الى وجهين لهذا الاختلاف والاستثناء .يهم الوجه الاول الحضور القوي للمفكرين والمثقفين في الفضاء العام وفي البرامج التلفزيونية والراديو كذلك المجلات والجرائد التي تخصص صفحات لمشاركة المفكرين والباحثين والجامعيين .ولا تقتصر هذه المساهمات على مجال معين بل تغطي جميع مجالات العلوم الإنسانية والاجتماعية والاقتصاد كذلك العلوم الصحية كالفيزياء والطب والرياضيات وعديد المجالات الثقافية .
اما السمة الثانية لهذا الحضور القوي للمفكرين في الفضاء العام في فرنسا فيهم تأثيره الكبير على صناعي القرار السياسي والسلطة والحكومات المتعددة سواء أكانت يمينية ام يسارية .ويسعى المسؤولون السياسيون والاحزاب السياسية الى ربط علاقات قوية ومتواصلة بالمثقفين والمفكرين للاستنارة بآرائهم وافكارهم حول القضايا الاساسية والتحولات الكبرى في فرنسا او في العالم .كما يتدخل المفكرون كثيرا لدى اصحاب القرار ورجال السلطة لدفعهم الى اخذ القرار او الموقف المعين .
هذا الحضور القوي للمفكرين والمثقفين وتأثيرهم الكبير في الفضاء العام ليس وليد اللحظة بل هو نتاج مسار تاريخي طويل يعود الى نهاية القرن التاسع عشر . كانت لحظة الكاتب الكبير اميل زولا (Emile Zola) ودفاعه الشهير عن الضابط لويس درايفوس (louis Dreyfus) في مقالة بعنوان "J’accuse" (اني اتهم ..) صدرت بجريدة الاورور (l’aurore)يوم 13 جانفي 1898 احدى أولى التدخلات المباشرة لاديب معروف واخذ موقف علني في قضية راي عام .وقد اثارت هذه الرسالة الكثير من النقاش والجدل في فرنسا لان زولا اعتبر ان اتهام الضابط درايفوس بالخيانة لفائدة ألمانيا كان نتيجة لأصوله اليهودية وتنامي الدعاية المعادية للسامية في ذلك الوقت في فرنسا .
وقد أسس تدخل زولا في النقاش العام تقليدا مهما داخل الحياة السياسية في فرنسا ليصبح احد سماتها البارزة الى يومنا هذا .
وقد عرفت فرنسا في تاريخها الطويل تدخل الكثير من المثقفين والمفكرين في الفضاء العام والذين اصبحوا مثقفين عضويين بالمعنى القرامشي للكلمة .ومن بين هذه الوجوه يمكن ان نشير الى جون بول سارتر ورفيقته سيمون دي بوفوار اللذين لعبا دورا اساسيا في مساندة قضايا التحرر الوطني في ستينات وسبعينات القرن الماضي كما ساندا قضايا تحرر الشباب وثورتهم اثر ماي 1968.
كما يمكن ان نشير الى عالم الاجتماع بيار بورديو(Pierre Bourdieu) والذي لعب دورا كبير في تسعينات القرن الماضي في مساندة الحركات العمالية والإضرابات ضد السياسات النيوليبرالية لحكومة آلان جوبي (Alain juppé) تحت رئاسة جاك شيراك.
ولعل الوجه الفكري البارز الذي اصبح دور أساسي في الفضاء العام في فرنسا هو المؤرخ وعالم الاجتماع بيار روزنفالن (Pierre Rosanvallon) والذي اثارت مقالاته وأحاديثه الصحفية حول مشروع اصلاح نظام التقاعد في فرنسا الكثير من الاهتمام .
وقد دفعت هذه المقالات والتدخلات الرئيس ماكرون في احدى المقابلات التلفزيونية يوم 19 افريل المنقضي الى الاشارة الى انه يحترم المثقف إلا انه يعتبر انه يحيد في بعض الأحيان عن دوره ليأخذ جبة المناضل السياسي .
وكي نفهم اهمية تدخلات المفكر روزنفالان والموقع الأساسي الذي يحظى به في المجال الفكري الفرنسي لابد من العودة ولو قليلا الى مساهماته الكبيرة في المجال الفكري والسياسي في فرنسا .وكان روزنفالان استنادا في اهم مؤسسة تعليم عال في فرنسا وهي الكوليج دو فرنسا (collège de France) في التاريخ المعاصر .وقد لعب دورا محوريا في النقاش الفكري وكان احد المساهمين الأساسيين في تطور الافكار في الساحتين السياسية والفكرية .وقد نشر عددا كبيرا من الكتب التي تبحث أساسا في قضايا الديمقراطية وأزماتها واخرها "قرن الشعبوية: التاريخ ،النظرية،النقد" او" le siècle du populisme : histoire ,theorie,critique) عن دار النشر لوساي (le seuil) وقد كون في 2009 مؤسسة فكرية سماها "جمهورية الأفكار" او "la République des idées) جمع فيها اهم المفكرين والمثقفين في فرنسا في شتى المجالات . وكان لهذه المؤسسة تأثير كبير من خلال الكتب التي نشرتها والندوات الكبرى ونشاط اعضائها ومقالاتهم في الصحف .
ولعل الاهم في تجربة وتأثير روزنفالان يعود الى موقعه السياسي والدور الذي لعبه في بناء المشروع الاصلاحي لوسط اليسار في فرنسا والذي مكنه من كسب مصداقية كبيرة وذلك الى جانب التيارات السياسية التاريخية في فرنسا وهي التيار اليميني والتيار اليساري الراديكالي من الحزب الشيوعي الى اقصى اليسار .وقد بدا روزنفالان حياته السياسية كمستشار في نقابة الكنفدرالية الديمقراطية للشغل والمعروفة باسم (CFDT) وكان مقربا متن زعيمها التاريخي ادمون مار(Edmond Maire) والمعروفة بمواقفها الإصلاحية والمنادية بالحوار الاجتماعي في خلاف مع الكنفدرالية العامة للشغل (CGT) القريبة من الحزب الشيوعي والمعروفة بمواقفها الراديكالية .
الى جانب دوره في المجال النقابي كان لروزنفالان دور سياسي هام من خلال دعمه للجناح الوسطي والاصلاحي في الحزب الاشتراكي الفرنسي حيث كان مقربا من ميشال روكار (Michel Rocard) احد اهم قادة الحزب الاشتراكي والوزير الاول السابق في عهدة الرئيس فرنسوا ميتران .
من خلال مواقفه الفكرية والسياسية لعب روزنفالان دورا أساسيا في بناء المشروع السياسي لوسط اليسار او ما يمكن ان نسميه بالخط الثالث بين اليمين واليسار الراديكالي.وقد نجح هذا العمل الفكري في بناء مصداقية هذا المشروع السياسي في فرنسا عند الناخبين وهيمن على الفضاء السياسي في العقود الأخيرة مهما اختلف تعبيراته السياسية .وهذا يؤكد في رايي اهمية وجود مشروع حكم عملي وفاعل لتغيير الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي نحول الافضل لانجاح الاحزاب وقدرتها على حيازة ثقة الناخبين والهيمنة على المجال السياسي .
كما كان الشأن في السابق كان لتدخلات روزنفالان تأثير كبير في الأيام الاخيرة على النقاش حول اصلاح صندوق التقاعد العام في فرنسا .ان اهتمامنا بهذا النقاش يكمن في ان المفكر روزنفالان طرح مسالة هامة لا تقتصر على فرنسا وتهم حدود وأوجه القصور في الديمقراطية وبصفة خاصة في الديمقراطية التمثلية ومدى قدرة الحكومات على المرور بقوة في تنفيذ إصلاحاتها وتمريرها بدعوى انها منتخبة من قبل الشعب في ظل رفض شعبي واسع .
- روزنفالان أزمة نظام التقاعد أزمة ديمقراطية
تعود هذه الأزمة الى قرار الرئيس الفرنسي ايمانوال ماكرون وحكومته المرور بقوة لتفعيل مشروع اصلاح صناديق التقاعد والذي اثار الكثير من الجدل .فقد اعتبر الكثيرون وخاصة النقابات ان هذا المشروع لا يهتم إلا بالالتزامات المالية للصناديق ويضرب بقوة عديد الامتيازات الاجتماعية للشغالين وخاصة في القطاعات المرهقة .الا ان الحكومة رات من جانبها ان هذه الاصلاحات والتقليص في بعض الامتيازات ومن ضمنها الزيادة في سنوات العمل قبل الخروج الى التقاعد ضرورية لضمان ديمومة هذا النظام الاساسي في العقد الاجتماعي .
وأمام صعوبة الوصول الى توافق في المجلس التشريعي وامام موجة السخط والرفض الشعبيين في الشارع قررت الحكومة المرور بقوة من خلال استعمال فصل في دستور 1958 وهو الفصل 3-49 الذي يسمح للحكومة باعتماد قانون مباشرة دون المرور الى التصويت في ظل غياب توافق .
وقد اثار القرار الحكومي الكثير من السخط والرفض لتتواصل المظاهرات المطالبة بسحبه والغائه .
وكانت مواقف المفكر روزنفالان مؤثرة في النقاش العام في فرنسا حيث انتقد القرار الحكومي بالمرور بقوة امام الرفض الشعبي واعتبر في عديد الحوارات التلفزية ان هذه الوضعية خلقت ازمة ديمقراطية هي الأخطر منذ نهاية الحرب في الجزائر .وقد رفض انصار الرئيس ماكرون والمدافعون عن الديمقراطية التمثلية هذا الموقف واعتبروا ان الانتخابات الأخيرة أعطت مشروعية للرئيس تمكنه من الإصلاحات الضرورية والتي دافع عنها في مشروعه الانتخابي .واعتبر بعض المدافعين عن هذا الموقف ان رفض مشروعية الصندوق والدفاع عن مشروع الشارع يشكل خطرا من شانه ان يقوض أسس الديمقراطية الليبرالية وركيزتها الاساسية المتمثلة في التمثيلية الانتخابية .
للرد على هذه الانتقادات عاد رزونفالان الى النقاش العام ليؤكد على ان الانتخاب اعطت "'مشروعية اجرائية" (légitimité procédurale) وهي في رايه غير كافية للقيام بهذه الاصلاحات الكبرى خاصة ان البعض انتخبوا الرئيس ماكرون في الدور الثاني لسد الطريق امام مرشحة اقصى اليمين مارين لوبان .
اما النقطة الثانية التي أثارها روزنفالان فتهم قراءته للانتخابات والتي تشكل تعبيرة عن الإرادة الجماعية المحدودة في الوقت والمكان .
وقد أثارت مواقف رزونفالان الكثير من الجدل والنقد بين من ينادون بضرورة ان تكون التمثلية اكثر تعددا ولا تقتصر على الانتخاب .ومن يرون من جهة اخرى ان هذه المواقف خطيرة باعتبار انها تدعو الى هدم ركائز الديمقراطية التمثلية وتعويضها بديمقراطية الشارع والمظاهرات .
وفي رايي وبالرغم من خصوصية الواقع الفرنسي يطرح الجدل والنقاش الذي عرفته فرنسا في الاشهر الاخيرة مسالة عامة تخص كل الأنظمة السياسية في العالم وتهم مستقبل الديمقراطية الليبرالية والنظام التمثيلي .
-الأزمة الفرنسية ومستقبل الديمقراطية
تطرح اهمية النقاش الذي فتحه المفكر رزونقالان في فرنسا اشكالية عامة تخص مستقبل الديمقراطية في العالم .وقد سمح هذا النقاش ببروز ثلاث تصورات كبرى لمستقبل الديمقراطية في العالم .
التصور الاول رافض ودافع عن نهاية الديمقراطية الليبرالية وينادي الى المرور الى الديمقراطية المباشرة امام تآكل وتراجع اشكال المشاركة التقليدية .
التصور الثاني هو التصور المحافظ الذي ينادي بالمحافظة على الاشكال التقليدية للديمقراطية التمثلية والابتعاد عن ديمقراطية الشارع التي تقود الى الفوضى .
اما التصور الثالث فهو ما أسميناه المشروع الإصلاحي الذي لئن واصل الدفاع عن الديمقراطية التمثلية الا انه يدعو الى إنعاشها بابتكار اشكال جديدة للمشاركة المواطنية .
تعرف الديمقراطية التمثلية ازمات كبرى في مختلف البلدان الديمقراطية مع تراجع تأثير وشعبية الأحزاب السياسية وانصراف المواطنين عن المشاركة السياسية وقد فتحت هذه الازمات مسار التفكير في الاصلاحات الضرورية من اجل تفعيل المشاركة المواطنية في الفضاء العام وفتح تجربة تاريخية جديدة.