أزمة الحكم في تونس (1) هل الحل في مبادرة «حكومة الوحدة الوطنية»؟

إن أزمة الحكم الشاملة التي تعيشها بلادنا، وخاصة في جانبها الاقتصادي والاجتماعي، ما انفكت تتفاقم يوما بعد يوم. وإن مبادرة رئيس الدولة التي أريد بها، حسب الدعاية الرسمية، حلّ هذه الأزمة، قد زادتها، في الواقع، حدة وعمّقت حيرة التونسيات والتونسيين بخصوص

مستقبلهم ومستقبل بلادهم. فقد مرَّ على إعلان المبادرة المذكورة حوالي الشهرين وعلى صدور ما سمّي بـ»اتفاق قرطاج»حوالي الأسبوعين، ومع ذلك فإن الأمور ما يزال يكتنفها الغموض خاصة بعد أن رفض رئيس الحكومة تقديم استقالته وقرّر اللجوء إلى البرلمان ليطلب منه تجديد الثقة، مما فرض على رئيس الدولة، الذي استسهل الأمور وأراد القفز على الدستور وتصرّف بعقلية عهد آخر لا تستوعب التحولات التي جرت بالبلاد، إعادة حساباته في انتظار جلسة يوم 30جويلية القادم التي تتجه فيها النية إلى التصويت في كل الحالات على رحيل الحبيب الصّيد.وفي الأثناء تشتد الصراعات داخل الائتلاف الحاكم بين أنصار قطبي السلطة التنفيذية وتحتدم المزايدات والضربات الهابطة والسافلة بين الذئاب المتنافسة على الكراسي داخل حزب «النداء» وخارجه،كل ذلك على حساب وطنٍ وشعبٍ يئِنّان تحت وطأة الأزمة الاقتصادية والاجتماعية والتهديدات الإرهابية.

• نتائج سلبية:
وفي الحقيقة فإن كل هذا ليس بالأمر المفاجئ. فلقد نبّهت الجبهة الشعبية منذ قيام الائتلاف اليميني الحاكم إلى أنه سيسير بالبلاد إلى مزيد التأزم وإلى أنه سيعمل بكل الوسائل على الالتفاف على المسار الثوري وإجهاضه بشكل نهائي وإعادة بسط نفوذ القوى الرجعية في المجتمع. وقد جاءت الوقائع لتؤكد ما كانت حذّرت منه الجبهة. فبعد عام ونصف من حكم هذا الائتلاف، تبدو الصورة قاتمة من كل الجوانب: اقتصاد في حالة ركود، ونسبة نمو قريبة من السلبية (0,8بالمائة مع العلم أن «النداء» و»النهضة» وعدا على حدّ السواء، بـ5 بالمائة نسبة نموّ للسنة الحالية)،ومديونية تقارب الـ55 بالمائة من الناتج الداخلي الخام أي بزيادة 7 نقاط تقريبا، وعجز ميزان تجاري بحوالي 30 بالمائة وتدهور غير مسبوق للدينار واقتصاد مواز يتجاوز حجمه الـ54 في المائة من الناتج الداخلي الخام، وتهرّب جبائي يكلف الدولة سنويا خسارة بآلاف الملايين من الدينارات،وفساد مستشر يكلّفها خسارة ما بين نقطتين أو ثلاث نقاط من نسبة النموولوبيات مافيوزية تتلاعب بمصالح البلاد وتتحكم شيئا فشيئا في مفاصل المجتمع وتؤثر في دوائر القرار، وتفريط في سيادة البلاد ومقدراتها، بحثا عن حلول وهمية. إن القوانين التي صادقت عليها الأغلبية بمجلس نواب الشعب تكاد تقتصر على خدمة رأس المال المحلي والأجنبي، وتوفير أكبر الفرص له لنهب ثروات البلاد وخيراتها، ولا يوجد من بينها قانون واحد لفائدة الكادحين والفقراء.

وقد أدّى تفاقم الأزمة الاقتصادية والمالية إلى تفاقم الأزمة الاجتماعية: نسبة بطالة رسمية تقارب الـ16 بالمائة أكثرها من الشباب ومن أصحاب الشهادات العليا المعطلين عن العمل خاصة، وتفاقم للفقر والتهميش وتعمق الفوارق بين الطبقات والفئات الاجتماعية وبين الجهات، وتدهور مستمرّ للمقدرة الشرائية، وتردّ للخدمات العامة من صحة وتعليم ونقل وسكن وماء صالح للشراب وبيئة، وانتشار لمظاهر العنف والجريمة واستهلاك المخدرات والكحولية، وقد صاحب كل ذلك تدهور فظيع للأخلاق العامة، إذ انتشر الكذب والنفاق والروح الفردانية على حساب المصلحة العامة والرشوة والارتشاء وشراء الذمم وعقلية تدبير الرأس والإثراء غير المشروع والنهب وانتهاك الأعراض وزرع الفتنة بين أبناء وبنات الوطن الواحد، كما انتشرت ظاهرة «الحرقة» والانتحار بين شبابنا إلى درجة غير مسبوقة. ومن ناحية أخرى فقد تفاقم العنف ضد النساء وتشيئتهنّ والاتجار بهن في سوق البغاء. كل ذلك في ظل حكم «حراس الأخلاق» الذين لم تعرف الأخلاق تدهورا كما عرفته في عهدهم.

ومن جهة أخرى فقد شهد المسار الدستوري تباطئا كبيرا ينم عن عدم رغبة في بناء المؤسسات الجديدة للدولة وفي إصلاح القضاء والأمن والجيش والإدارة وفي مراجعة المنظومة التشريعية القديمة لملاءمتها لنص الدستور وروحه، بل إن الملاحظ هو السعي المحموم لقطبي السلطة للسيطرة على مؤسسات الدولة وأجهزتها واقتسامها بعقلية الغنيمة كما كان الأمر في عهدي الدكتاتورية والترويكا، لتوظيفها في خدمة المصالح الخاصة والفئوية، في تعارض تام مع «مبدأ الكفاءة أولا»، واستخدامها ضد الشعب من أجل إخضاعه وتطويعه كما حصل في أكثر من مناسبة. وفي هذا السياق ما انفك الائتلاف الرباعي الحاكم يسعى إلى الالتفاف على مسار العدالة الانتقاليةوإلى التصالح مع رموز النظام القديم من أجل رسكلتهم وإعادتهم للخدمة والاستفادة من تجربتهم في الفساد والاستبداد، بعنوان «المصالحة الوطنية» على حساب كل ضحايا الاضطهاد الدكتاتوري وخاصة منهم شهداء الثورة وجرحاها الذين أوصلوا الحكام الحاليين إلى السلطة.

كما يسعى الائتلاف الحاكم إلى طي ملف الاغتيالات السياسية وعلى رأسها اغتيال شهيدي الجبهة والوطن، شكري بلعيد والحاج محمد البراهمي، وقد وصل الاستفزاز في هذا المجال إلى حد ترقية حاكم التحقيق الذي تمّ استعماله أداة لطمس الحقيقة في اغتيال الشهيد الرمز شكري بلعيد. أما في الملف الأمني فإذا كانت قوات الأمن والجيش قد سجلت بعض النقاط في مقاومة الإرهاب فإن الائتلاف الحاكم ظلّ يرفض عقد مؤتمر وطني لمقاومة الإرهاب حتى لا تثار العديد من الحقائق التي تزعج في المقام الأول حركة النهضة وتكشف مسئوليتها في تطور الظاهرة الإرهابية ببلادنا وفي تسفير شبابنا إلى سوريا والعراق وغيرهما من بؤر التوتر، حتى أن بلادنا احتلت المرتبة الأولى في تصدير الإرهابيين.
وفي مجال السياسة الخارجية فإن أهم ما ابتليت به بلادنا، عدا الاضطراب وعدم الاستقرار في المواقف،هو اصطفافها وراء الٌمحور السعودي القطري التركي في نزاعات لا طائل لبلادنا من ورائها، كما تمّ عقد اتفاقات مريبة مع الولايات المتحدة الأمريكية بعنوان

«الشراكة الاستراتيجية» التي كان من نتائجها في المدة الأخيرة إعلان الأمين العام لمنظمة الحلف الأطلسي تكوين مركز استخباراتي استراتيجي بالجنوب التونسي بما يعنيه ذلك من دوس للسيادة الوطنية وتهديد لأمن كامل المنطقة.

ولا يمكن أن نتغافل عن الارتداد الفكري والثقافي الخطير الذي تشهده بلادنا، فحركة النهضة وحزب التحرير والجماعات السلفية بمختلف أصنافها، لا تتوانى، كل من موقعه وفي مجاله، من داخل الحكم أو من خارجه، بشكل رسمي أو غير رسمي، وبألف وسيلة ووسيلة، مساجد ومدارس موازية، وجمعيات، وقنوات تلفزية وإذاعات وصحف وكتب ومكتبات وشبكاتالتّواصل الاجتماعي، عن شن حرب لا هوادة فيها ضدّ مكتسبات مجتمعنا الحداثية والدفع نحو الانقلاب عليها والعودة إلى تقاليد وممارسات وتشريعات وأفكار موغلة في التطرف والرجعية. كل ذلك يجري اليوم على العموم بشكل «ناعم» وخبيث بعد أن فشلت الطرق والوسائل العنيفة والقسرية.

• «اتفاق قرطاج»: إعلان نوايا والهدف هدف آخر
هذا ما آلت إليه أوضاعنا اليوم مع حكم الائتلاف اليميني بقيادة الثنائي «النداء – النهضة» والذي تمثل حكومة الحبيب الصيد أداته التنفيذية الرئيسية: أزمة اقتصادية واجتماعية خانقة ومخاطر أمنية كبيرة، وتعطل للمسار الدستوري وسياسة خارجية بلا بوصلة. ومن الواضح أن هذه الأوضاع إذا ما استمرت فإنها ستعرض بلادنا إلى مخاطر كبيرة.ولكن السؤال هل أن الائتلاف الحاكم استوعب حقا الدرس من تجربة العام ونصف العام ومن الفشل الذي مني به خلالها؟ وهل أصبحت تحركه رغبة جدية في معالجة الأزمة؟ وبعبارة أخرى هل أن مبادرة رئيس الدولة المذكورة تندرج في سياق جدي يهدف إلى تصحيح المسار وإنقاذ البلاد وإخراجها من الأزمة ووضعها على سكة نهوض حقيقي مناسب يستجيب لطموح الشعب التونسي ومطالبه التي رفعها في ثورته؟ لا نعتقد ذلك. فما جاء في «اتفاق قرطاج» حول ما سمّي «أولويات حكومة الوحدة الوطنية» الصادر بتاريخ 13 جويلية الجاري والذي أمضاه الائتلاف الحاكم بمعية بعض أحزاب المعارضة والمنظمات الوطنية الثلاث الكبرى يؤكد كل ما نبهت إليه الجبهة الشعبية من أن مبادرة قصر قرطاج، بما اتّسمت به من تسرّع في التمشّي وما حفّ بها من مناورات «سياسوية» ومزايدات وبيع وشراء، لن تأتي بجديد ولن تفتح أفقا حقيقيا لحل الأزمة التي تتخبط فيها تونس.
إن الوثيقة ليست إلا إعلان نوايا ومبادئ وشعارات عامة تذكر بما جاء في الحملة الانتخابية للنهضة والنداء، وبما جاء في بيان حكومة الصيد في شهر مارس 2015 فلا أرقام ولا مؤشرات ولا التزامات ملموسة ومحددة زمنيا، كما هو مطلوب من كل حكم يريد إنقاذ البلاد وليس بيع الوهم والشعارات فليس المطلوب اليوم الحديث عن مقاومة الفساد والتهريب والتهرب الجبائي والتشغيل والتنمية الجهوية التي لم يخل منها خطاب سياسي لأي حزب من الأحزاب أو حكومة من الحكومات المتعاقبة منذ سقوط بن علي، والتي كررها «اتفاق قرطاج»، بل المطلوب هو ضبط القرارات والإجراءات والآليات الملموسة لتحقيق كل ذلك.

لقد علق رئيس الحكومة الحبيب الصيد عن الوثيقة التأليفية بالقول «بعد اطّلاعي على وثيقة أولويات حكومة الوحدة الوطنية أجد الكثير من نقاط الالتقاء مع برنامج الحكومة الحالية وتوجهاتها إن لم يكن بأكملها» بمعنى آخر أراد رئيس الحكومة القول إن الوثيقة لم تأت بجديد، وهي تكرّر ما كان صرح به هو سابقا وما يعتبر فشلا فإن كان كذلك فأيّ فائدة في تكراره. ومثل هذا التقييم للوثيقة نجده حتّى عند بعض الإعلامييّن، مثل رئيس تحرير جريدة المغرب الذي لا يمكن اتهامه بالانحياز أو بمعارضة مبادرة رئيس الدولة والحال أنه رأى فيها عند إطلاقها عملية إيجابية قد تقلب بعض المعطيات. لقد علّق زياد كريشان على الوثيقة بالقول «ما نلاحظه إلى حد الآن هو أن وثيقة الأولويات قد تجنبت كل الملفات الساخنة والخلافية دافعة بها إلى الحكومة القادمة تماما كما فعلنا-بصيغة مختلفة-مع حكومة الحبيب الصيد-حيث اكتفت الأحزاب المشكلة لها بالوعود وتركت الحكومة تتخبط في الصعاب دون رسم أفق سياسي إصلاحي لعملها... فكانت النتيجة التي نعرف»، ثم أضاف في مكان أخر:» كون وثيقة الأولويات ... صمتت(..) على تحديد السياسات العملية وكذلك الأهداف الملموسة». (جريدة المغرب 9 جويلية 2016)

إن نفس هذا الانطباع نجده في جريدة «الصحافة» بنفس التاريخ. فقد كتب الهاشمي نويرة (المدير رئيس التحرير) إن الوثيقة «تضمنت في مجملها إعلان مبادئ وشعارات لا ترقى بالطبع إلى برنامج حكومة قابل للتطبيق» لأنها لم تجابه المشاكل الحقيقية وقفزت عليها وأوهمت بتقديم حلول لا نعتقد أنها قاربت حتى المسكنات « مضيفا أن هذه المبادرة «مفتقدة لأهداف واضحة المعالم ومفتقرة لأبسط الحلول ويطغى عليها الطابع «التوفيقي» الذي يصل حد إفراغها من محتواها الجدي والعملي». ومن هذا المنطلق اعتبر الهاشمي نويرة أنّ كل ذلك «يدفعنا إلى اليقين بأن المطلوب ليس برنامج حكم أو تغيير حكومة معطلة وإنما الأمر يتعلق بتغيير شخص رئيس الحكومة الحبيب الصيد...»، بل إنه خلص إلى أن الوثيقة «مجرد وسيلة للتورية عن الفشل ورغبة مشبوهة لطمس عمل حكومة تشتغل تحت القصف وبلا سند سياسي».

إن هذا الكلام لم يكتبه قيادي بالجبهة الشعبية وإنما كتبه إعلاميان، يعرف القاصي والداني ألاّ علاقة لهما بالجبهة الشعبية. ولكنهما وقفا عند بعض الحقائق التي يمكن أن يستخلصها أي إعلامي أو متابع موضوعي للشـأن العام. فما الفائدة إذن من مبادرة لا تطرح حلولا جدية

لأزمة الحكم المستفحلة والتي يدفع فاتورتها الشعب ويمثل استمرارها خطرا كبيرا على البلاد؟ وهنا نأتي للُبّ المشكل. إنّ مبادرة رئيس الدولة لم تحركها في الواقع رغبة جدية في مواجهة الأزمة التي تعيشها البلاد، بقدر ما حركتها عوامل «سياسية» أخرى أولها الأزمة التي يعيشها نداء تونس، وتأثير هذه الأزمة في موازين القوى داخل الائتلاف الحاكم، إذ أن المنتفع الرئيسي منها هو حركة النهضة بالطبع، التي اتعظت من تجربتها السابقة في الحكم، (حكم الترويكا) وفهمت أن التسرع في الاستيلاء عليه، خاصة في مثل هذا الظرف الإقليمي والدولي الراهن غير المناسب للإسلام السياسي، لا يخدم استراتيجيا أهدافها، بل قد يقضي عليها لذلك فرغم انفجار نداء تونس وتراجع تأثيره بل وفقدانه للمرتبة الأولى التي حصل عليها في انتخابات 2014، فإنها لم تطالب بإعادة توزيع الأدوار داخل الائتلاف ولم تعمل على تشكيل تحالف جديد، أو على الدعوة إلى انتخابات مبكرة، بل ظلت «مهادنة»، «طيعة» تتظاهر بالحرص على السير الحسن لدواليب الدولة، وبعدم الرغبة في استغلال الظروف الصعبة التي يمر بها «الحليف» ولكنها في الواقع تعبئ الصفوف وتتوسع، وتعمل على تجميل الصورة في الخارج، عند الدول الغربية خاصة، وتترك الوقت لكي تتعفن الأزمة داخل النداء أكثر ما يمكن وتبدي في الخفاء الولاء لابن الرئيس حتى يمضي إلى الأمام في تمزيق صف «حزب والده».

• إعادة ترتيب البيت والإعداد لتنفيذ توصيات المؤسسات المالية
إن رئيس الدولة يريد إعادة ترتيب البيت الداخلي للنداء نهائيا لصالح ابنه من خلال إبعاد الحبيب الصيد الذي ابتعد عنه بعض المسافة ولم يعد يسمع كلامه وماح قليلا إلى حركة النهضة بل لم يعد ذلك الإداري الطيع وأصبحت له حساباته السياسية، وصار لا بدّ من تعويضه بشخص «أكثر وفاء». وهوما يفتح الباب لتغيير الوزراء والمسؤولين الخارجين عن الطوع واستبدالهم بآخرين طيعين وفي مثل هذه الحال فإن «الطمع» والانتهازية سيدفعان بالمترددين في نداء تونس إلى الاصطفاف مجددا لضمان مستقبلهم، بما أن القصر هو الذي سيوزع الحقائب والغنائم،وفي نفس الوقت، فإن استعادة زمام الأمور في «النداء» وفي الحكومة سيسمح بالحد من مخاطر زحف «حركة النهضة» التي ستخضع لمراقبة أشد عبر المسؤولين الموالين للرئيس ولنداء تونس بما يحد من إمكانيّة استغلالها للانتخابات البلدية لإعادة قلب موازين القوى لصالحها فتطالب وقتها بانتخابات تشريعية مبكرة لتكريس علاقة القوى الجديدة.هذا هو السياق الحقيقي الذي تندرج فيه «مبادرة الرئيس». ولكن كان لا بد من إخراج لهذه المبادرة، من أجل إبعاد الصيد، وإعادة تشكيل الحكومة التي ستكون مهمتها تنفيذ البرنامج الجاهز، الذي وضعته المؤسسات المالية الدولية لبلادنا. وهو برنامج موجه رأسا ضد الشعب، ضدّ الطبقات والفئات المتوسطة من المستثمرين التي يراد تحميلها فاتورة أزمة ليس لهم مسؤولية فيها.
لذلك لم يكن ثمة أفضل من سيناريو حكومة الوحدة الوطنية، لضرب عصفورين بحجر واحد: تشكيل ائتلاف سياسي اجتماعي واسع للإطاحة بالصيد أولا ولتنفيذ «برنامج» صندوق النقد الدولي وفرضه بالقوة على الشعب ثانيا. إن الأزمة ما هي إلا ذريعة في هذا السياق، لأن حلّها، في الواقع، ليس عند الأحزاب أو المنظمات المشاركة في المشاورات وإنما عند صندوق النقد الدولي، أما هذه الأحزاب والمنظمات فالحاجة إليها سياسية أولا وقبل كل شيء للمساعدة على الإطاحة بالصيد وتشريع تشكيل الحكومة الجديدة.ولهذا السبب اتسمت مشاورات السبسي بالتسرع. فهو يريد الوصول إلى إقالة الحبيب الصيدفي أسرع وقت. وحتى أولويات الحكومة الجديدة، فقد أرادها سريعة أيضا، لا تتجاوز حدود المبادئ والشعارات العامة والفضفاضة، رافضا نقاش الأسباب وتحديد المسؤوليات، والخوض في القرارات والإجراءات الملموسة وفي جدولتها الزمنية بدعوى أن ذلك ليس من مهامها وسيوكل إلى الحكومة الجديدة ذاتها. لقد أراد القصر إيهام الأطراف المشاركة في المشاورات، من أحزاب ومنظمات، أن الرئيس «يستمع» إلى مشاغلها ويولي «أهمية» إلى رأيها، وهو في الواقع لا غاية له من تلك المشاورات سوى كسب تأييد المشاركين فيها لإبعاد الحبيب الصيد وتعويضه بشخص آخر.

أما الإجراءات والقرارات الملموسة التي ستطبق في الواقع فهي تلك المُملاة من المؤسسات المالية الدولية التي تتهم حكومة الحبيب الصيد بعدم الجرأة وعدم التسريع في تطبيقها. وهذه الإجراءات وردت في رسالة وزير المالية ومحافظ البنك المركزي لصندوق الدولي، كما وردت في القوانين التي مررتها الأغلبية الحاكمة في البرلمان والتي ما زالت تنوي تمريرها مثل «اتفاقية التبادل الحر الشامل والعميق» وفي الميزانية التي أقرتها في بداية هذا العام. وهي كلها إجراءات تضرب السيادة الوطنية في العمق وتخرب ما تبقى من النسيج الصناعي والفلاحي والخدماتي وتحكم على العديد من أصحاب وصاحبات المؤسسات الصغرى والمتوسطة بالإفلاس، وتوسع دائرة البطالة والتهميش وتدفع أغلبية الموظفين والأجراء إلى دائرة الفقر بسبب تدهور مقدرتهم الشرائية جراء غلاء الأسعار وتجميد الأجور وتزايد الضغط الجبائي وانخفاض قيمة الدينار وحرمانهم من الخدمات الأساسية.وهو ما يجعل من الحكومة القادمة، إن لم تجد المقاومة الضرورية، في البرلمان وخارجه، حكومة أخطر من الحكومة الحالية لما سيعهد لها تطبيقه من التزامات وإجراءات معادية للشعب والوطن، وهو ما رفضته وترفضه الجبهة الشعبية، حين لم تشارك في المشاورات، حتى لا تكسب هذه المهزلة مصداقية ولا توهم الرأي العام بأنها تشارك في مناقشات جدية لإيجاد مخرج حقيقي للأزمة التي تعاني منها البلاد ويتحمل تبعاتها الأجراء والكادحون وحتى الفئات الوسطى من المجتمع.
يتبع

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115