منذ سنوات في أغلب البلدان التي اختارتها كمنهج للعمل السياسي.
وقد عرفت هذه الأزمة تعبيرات مختلفة من ضمنها تراجع وتاكل الاحزاب السياسية التقليدية التي كانت في قلب العملية السياسية وحملت التصورات والرؤى الكبرى للحداثة والتغيير الاجتماعي خلال اكثر من قرنين في تاريخ الإنسانية. كما شهدت المنظمات الاجتماعية الكبرى كالنقابات والجمعيات نفس التراجع لتفقد الكثير من منخرطيها وبصفة خاصة قدرتها على تحسين الأوضاع الاجتماعية والاقتصاديةوالضغط على مسار التغيير الاجتماعي ودفعه نحو الأفضل.
كما يمكن أن نشير إلى انحسار المشاركة الانتخابية وتراجع الاهتمام بأهم عملية في الديمقراطيات. فقد عرفت المسارات الانتخابية في أغلب البلدان الديمقراطية ضعفا كبيرا ومشاركة محدودة لتفقد النتائج الكثير من مشروعيتها أمام غياب جزء كبير من الجسم الانتخابي.
كما شهد المجال السياسي تدخلا للوبيات مختلفة من المجال المالي َ والاجتماعي وحتى الاجرامي وتغلغل نفوذها بفضل إمكانياتها المالية الضخمة في عديد المؤسسات الديمقراطية ومؤسسات الدولة للتاثير على قراراتها ومواقفها. وساهمت هذه التدخلات والتأثير المتسارع لهذه اللوبيات في ضرب شرعية المؤسسات الديمقراطية وتآكل حضورها.
أثارت هذه الأزمة مسألة سياسية اساسية وهي قدرة الديمقراطية التمثيلية ومؤسساتها على مواصلة دورها في بلورة رؤيا جمعية ومواطنية للاولويات والاختيارات الكبرى للمجتمعات. وكان التساؤل الأساسي يهم قدرة الديمقراطية الليبرالية وتعبيرتها التمثيلية على رعاية شبق المشاركة السياسية في المجتمعات الحديثة واامساهمة في بناء الرابط الجمعي الذي يسمح بفض النزاعات وبناء الاختيارات الكبرى بطريقة سلمية.
وقد أثار هذا التساؤل الكثير من الجدل واسأل الكثير من الحبر حول مستقبل الديمقراطية الليبرالية ودورها ودورها في بناء الوفاق الجمعي.في المجتمعات.
وقد ساهم الكثير من المفكرين والفاعلين السياسيين في هذا المجال حول مستقبل الديمقراطية والمشاركة المواطنية في المجال السياسي ويُعتبر المفكر الاجتماعي الجامعي الأمريكي فرانسيس فوكومايا احد اهم المساهمين في هذا النقاش العالمي. وقد قدم في كتابه الجديد الصادر منذ ايام تحت عنوان «liberalisme - vents contraires» او الليبرالية-رياح معاكسة» عن دار نشر Saint Simon في نسخته الفرنسية عديد المقترحات للخروج من أزمة النظام الديمقراطي الليبرالي.
• فرانسيس فوكومايا فشل مشروع الديمقراطية
فرانسيس فوكومايا مفكر وجامعي له تأثير كبير لا فقط في الاوساط السياسية والفضاء العام بل خاصة لدى صناع القرار في الإدارة الأمريكية. فقد سطع نجمه على المستوى العالمي مباشرة أثر سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الاشتراكية في 1989
وقد نشر فوكومايا في صائفة 1989 مقالا مهما تحت عنوان «the end of history» او « نهاية التاريخ» في مجلة علمية مرموقة اسمها national interast وقد تمت ترجمة هذا المقال الى أغلب اللغات في العالم ليصبح مرجعا أساسيا لفهم نهاية التجربة الاشتراكية وانتصار الديمقراطية الليبرالية. وسيقدم فوكومايا جملة من هذه الأفكار في كتاب بعنوان «the end of history and least Man» او نهاية التاريخ واخر انسان سنة 1992.
وقد اخذ فوكومايا فكرة «نهاية التاريخ» من الفيلسوف هيغل َالذي اعتبر ان المسيرة التاريخية للانسان تسير الى نوع من الكمال في المجتمع الذي يحقق الأهداف السامية للانسان من حرية وانعتاق وتقدم.
وقد اعتبر فوكومايا ان هزيمة الانطمة التسلطية والاستبدادية في المعسكر الاشتراكي انهت الصراع التنافسي بين نظاميين كونيين : النظام الديمقراطي في البلدان الغربية من جهة والأنظمة الشمولية والكليانية في بلدان المعسكر الاشتراكي.
وبهذا المعنى فإن سقوط جدار برلين في 1989 هو نهاية التاريخ بمعنى الصراع التاريخي بين هذين النظاميين وانتصار الديمقراطية الليبرالية التي ستصبح الافق التاريخي للأنظمة السياسية في المجتمعات الحديثة.
ولعل الجانب المهم في هذه القراءة هو تأكيد فوكومايا على أن العقد او التوافق الديمقراطي سينهي الصراعات الايديولوجية ويوحد المجتمع العالمي حول المبادئ الكونية لحقوق الإنسان والحرية والتعدد وسلطة القانون.
ستلقي هذه النظرة المثالية للمستقبل الكثير من النقد وتثير الكثير من الجدل حيث اعتبر الكثيرون ان نهاية الاتحاد السوفياتي وسقوط المعسكر الاشتراكي لم تنه مخزون العنف والصراع في العلاقات الدولية.
بالرغم من هذا النقد الا أن كتاب فوكومايا وتحاليله وعديد الكتابات الأخرى للكثير من المفكرين ستفتح فترة تاريخية ستهيمن خلالها الليبرالية السياسية والاقتصادية قرابة ثلاثة عقود منذ منتصف الثمانينات إلى أزمات 2008 - 2009.
وسيدافع فوكومايا والعديد من المفكرين عن ضرورة تصدير الديمقراطية وفرضها على المستوى الكوني في كل بلدان العالم وان لزم الأمر على الدبابات ومع جنود المارينز.
وفي هذا الإطار سيأتي دعمه لصقور المحافظين الجدد الداعمين لرونالد ريغان وبوش. وقد ساند مشروع المحافظين الجدد خلال رئاسة بوش وخاصة وزير الدفاع دونالد رمسفيلد ومشروع الشرق الأوسط الكبير وتصدير الديمقراطية على فوهات البنادق. ورغم أنه دعا الإدارة الأمريكية إلى إسقاط الرئيس العراقي صدام حسين الا أنه تراجع في آخر لحظة ورفض دعم الحرب ضد العراق.
ولئن تراجع عن فكرة تصدير الديمقراطية الليبرالية حتى ولو بقوة السلاح الا أنه بقي مدافعا شرسا عن الليبرالية السياسية وداعما لها في عديد البلدان التي قامت بخوض هذه التجربة وبصفة خاصة بلدان أوروبا الشرقية أثر سقوط جدار برلين والبلدان العربية أثر ثورات الربيع العربي. وقد زار فوكومايا بلادنا في عديد المناسبات حيث قدم عديد المحاضرات وساهم في تنشيط عديد البرامج البحثية.
وقد تناول فوكومايا بالدرس أزمة الديمقراطية الليبرالية في مؤلفه الجديد حيث قدم بعض المقترحات لمواصلة هذه التجربة ولديمومتها.
• فوكومايا وديمومة الديمقراطية الليبرالية
لا يمكن لفوكومايا التغاضي عن النقد الموجه إلى النظرية التي دافع عنها طيلة حياته والمرور بصمت عن النقد والجدل المتزايدين اللذين أثارتهما هذه الأفكار خلال السنوات الآخيرة.
وقد كان الكتاب الجديد لفوكومايا المصادر منذ ايام تحت عنوان libéralisme-vents contraires او «الليبرالية-الرياح العكسية» بمثابة قراءة نقدية لارثه الفكري وقناعاته السياسية. وكانت نقطة انطلاق هذا الكتاب هي الاعتراف بالفشل الذريع لتجربة تصدير الديمقراطية والتي خاضها مع المحافظين الجدد وصقور التدخل الأمريكي المباشر في البلدان النامية لاسقاط الانظمة التسلطية والاستبدادية وبناء الديمقراطية وشكلت الحرب على العراق ومشروع الشوق الأوسط الجديد إحدى المحطات الأساسية لمشروع تصدير الديمقراطية والاستقرار السياسي وكان وراء مرحلة عدم الاستقرار وتنامي العنف والإرهاب وكان النضال ضد الوجود الأمريكي في العراق وراء تنامي الجهاد والحركات الإسلامية الراديكالية المسلحة َ وتحولها من أفغانستان للاستقرار في المنطقة العربية وقد تواصل امتدادها في الحرب السورية مع ظهور العصابات الإرهابية الجهادية.
قام فرانسيس فوكومايا بنظرة نقدية لتجربة المحافظين الجدد وطرقهم العنيفة في تصدير الديمقراطية الى البلدان النامية والتي لا يمكن بناؤها على مدرعات الجيش الأمريكي لكن وفي نفس الوقت أكد فوكومايا على قناعاته التي دافع عنها طوال مساره السياسي الفكري وقدمها بكل وضوح في كتابه نهاية التاريخ وهي ان الديمقراطية الليبرالية وبالرغم من مساوئها تبقى الافق السياسي للانسانية في تجربتها التاريخية ويشير في هذا المجال الى تجارب الانظمة التسلطية والاستبدادية مع التاكيد على أن نظام بوتين في روسيا لا يملك مقومات الديمومة.
و أشار فوكوياما الى ان التجربة الديمقراطية لا بدّ ان تستفيد من النقائص والازمات التي عرفتها في السنوات الاخيرة وبصفة خاصة في مسار العولمة، وفي هذا الاطار أكد على ضرورة العودة الى اطار الدولة الوطنية كمجال للعمل السياسي مع التأكيد على الدور التعديلي للدولة، كما أكد فرانسيس فوكوياما على ضرورة الخروج من السياسات الاقتصادية النيوليبيرالية والتي ساهمت في ضرب العقد الاجتماعي وتنامي الفقر والتهميش الاجتماعي.
كما وجّه فوكوياما في كتابه الجديد سهام نقده لليسار الراديكالي الذي يدافع في عديد البلدان وبصفة خاصة على التنوع وهو ما يعرف بتيارات woko والذي ساهم حسب رأيه في تفتيت المجتمعات الديمقراطية وفكّ اواصر العقد الاجتماعي.
وفي نهاية هذا الكتاب قدم فرانسيس فوكوياما نظرة لليبيرالية جديدة في المجال الفكري والتي يجب ان تقطع مع النظرة القديمة والراديكالية لهذا الاتجاه واولوياته السياسية والاقتصادية، فالليبيرالية حسب فوكوياما هي فنّ التوازن وأن المغالاة في السوق أو في تدخّل الدولة في الحقوق الفردية من شأنها ان تعيق تطور المجتمعات الحديثة وتبث فيها بذور العنف والفوضى وينهي فوكوياما كتابه بجملة تشير الى قناعاته الجديدة حيث يشير الى ان «مفتاح تجديد الليبيرالية يكمن في اكتشاف الوسطية والاعتدال».
يشكل هذا الكتاب الصادر منذ ايام لاحد أهمّ مفكري الليبيرالية تطورا مهما في تفكيره وقطيعة مع التصوّرات التي دافع عنها خلال ثلاثة عقود منذ ثمانينات القرن الماضي الى الازمة المالية لسنوات 2008 و2009، نقد.
وقد تميزت هذه المرحلة بهيمنة نظرة راديكالية وهجومية لليبرالية ذهبت الى حد فرض الديمقراطية بقوة السلاح وتطبيق السياسات الاقتصادية الموغلة في النيولبرالية وفي تطبيق قوانين السوق.
الا ان الأزمات التي خلقتها هذه النظرة خلال العقود الفائتة فتحت باب المراجعات والنقد الذاتي لتفتح الباب الى ليبرالية ناعمة وأكثر ليونة تأخذ بعين الاعتبار التوازنات السياسية والاجتماعية والاقتصادية ويمكن اعتبار هذا الكتاب الجديد لمفكر الليبيرالية «مانيفاستو» هذا التحول الذي يسعى الى اعادة الروح للديمقراطية الليبيرالية كما كان كتاب نهاية التاريخ «مانيفاستو» الليبيرالية الراديكالية والفجة.
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم هو معرفة قدرة هذا التحول الفكري والسياسي على الخروج من الازمة الخانقة الديمقراطية الليبيرالية وبناء مشروع ليبيرالي جديد ولنا عودة إلى هذا الموضوع.