إنّها أربع عشرة صفحة فقط من جملة سبعمائة صفحة تقريبا، تختزل «عامين إلاّ شهرا» من التّبّعات العدليّة التي عانى منها المؤلّف وحوالي أربعة وعشرين عاما من الصّمت المفروض والعزلة والمصادرة الإعلاميّة التي لم تنته نسبيّا إلاّ بزوال حكم زين العابدين بن علي يوم 14 جانفي 2011.
وهذه المحنة تلقي بظلالها على كامل الكتاب الذي اعتبره المؤلّف «بمثابة سيرة ذاتيّة». فعنوان المجلّد الأوّل هو «في مهبّ رياح السّياسة»، ومن عناوين فصوله «في متاهات السّياسة» وفي «غمرة العمل السّياسيّ»، ومن عناوين فقراته «وهربت من السّياسة» وفي «لجنة التّنسيق الحزبيّ بسوسة ومغابن السّياسة».
فالسّياسة كما يصفها المؤلّف، وكما يعيشها القارئ المتابع له، بحر خطير متلاطم الأمواج، وعواصف هوجاء، ومتاهات للضّياع ومغابن ومظالم.
وهذه المحنة ألقت بظلالها على علاقتي بـ»سيدي بشير». فكلّما كنت أزوره، وخاصّة قبل الثّورة، كنت أستمع إلى شكواه من الظّلم والجحود، وأشعر بمرارته، وكان يُطلعني في الكثير من هذه الجلسات على بعض تفاصيل الطّوق الذي أحاطوه به، وأخبار امتناع أغلب النّاشرين عن طبع مؤلّفاته الغزيرة. وكنت أنتظر دائما لحظة ابتسامته وانبساط أسارير وجهه بعد التّجهّم، لأطمئنّ على ارتفاع معنويّاته قبل مغادرة بيته، وكان انتظاري لا يخيب، لأنّ ما كانت تحيطه به أسرته الصّغيرة من عناية ومحبّة وسكينة ساعده على احتمال ما كابده في محنته السّياسيّة، وهذا ما ردّده في سيرته الذّاتيّة. وهناك سبب آخر جوهريّ جعل البشير بن سلامة لا ينهار ولا يضعف : لقد كان يعمل يوميّا على التّرجمة والكتابة وتبييض مذكّراته ونصوصه. كان يعتبر الكتابة واجبا مقدّسا، وكانت الكتابة جسره إلى الحياة العامّة التي حرم منها.
بدأ البشير بن سلامة نضاله السّياسيّ باكرا، وهو تلميذ بالمعهد الصادقيّ ينشط في الشّبيبة المدرسيّة ضدّ الاستعمار، ويساهـــــــم في « خليّة مقاومة » داخل الوزارة الحربيّة التي كان والده يعمل بها ويقيم مع أسرته بجوارها، لأنّه كان ضابطا بحرس الباي. ثم دخل السّياسة من باب الحزب الحرّ الدّستوريّ. وتدرّج في سلم المهامّ، وتنوّعت ومسؤوليّاته، كما هو مبيّن في سيرته المتداولة. وعندما أزيح من وزارة الشّؤون الثّقافيّة يوم 12 ماي 1986، كان في الوقت نفسه نائبا في مجلس الأمّة، ورئيسا لبلديّة قصور السّاف ورئيس تحرير لمجلّة الفكر. وقد قبل بإقالته من وزارة الشّؤون الثّقافيّة، واعتبر ذلك من تقلبات السّياسة وصروف الزّمان، وظنّ أنّ بإمكانه ممارسة بقيّة مسؤوليّاته، ولكنّ الظّلم الذي سلّط عليه، والذي أسمّيه «عنفا سياسيّا» حكم عليه بالتّقاعد المبكّر وهو في أوج العطاء، في سنّ الخامسة والخمسين.
سأعدّد مظاهر هذا العنف السيّاسيّ وسأسمّيها، من باب الإنصاف، ومن باب واجب الذّاكرة، ومن باب المطالبة بأن لا يتكرّر هذا العنف.
أوّل وجوه العنف السّياسيّ الإقالة المفاجئة لأسباب سياسيّة صرف، هي الرّغبة في إزاحة جماعة محمّد مزالي من السّلطة. فمن أقال البشير بن سلامة لم يقيّم عمله بالوزارة لمدّة ستّ سنوات، ولم يمكّنه من تقديم حصيلة عمله ومن الدّفاع عن نفسه.
وثاني وجوه العنف عدم تمكينه من تمرير مهامّه على وجه سليم لمن خلفه على رأس الوزارة.
وثالث وجوه العنف فرض الإقامة الجبريّة عليه إثر هروب محمّد مزالي، نجاة بنفسه بعد ترهيبه وتهديده بالإعدام. اختار البشير بن سلامة عدم الهروب وظلّ مقيما ببيته في العاصمة أو بيته بشاطئ سلّقطة. ومع ذلك حاصره البوليس وكأنّه مجرم خطير.
ورابع وجوه العنف تلفيق تهمتين كيديّتين ضدّه، إحداهما متعلّقة بصندوق التّنمية الثّقافيّة، والأخرى متعلّقة بصرف ميزانيّة الوزارة لمدّة ستّ سنوات. وقد حُفظت القضيّتان لعدم توفّر الأركان القانونيّة للتّهم المنسوبة إليه، لا سيّما أنّ البشير بن سلامة كان لا يتلقّى أيّ مكافآت على أنشطته الثّقافيّة في مجلّة الفكر أو في بيت الحكمة، أو غير ذلك. ولم يخف البشير بن سلامة معاناته من هذا التّتبّع القضائيّ الجائر، لمن نأى بنفسه عن المصالح الشّخصيّة وكان مثالا للتّعفّف والنّزاهة : «فأكون إذن قد بقيت عامين إلاّ شهرا وسيف التّتبّعات مسلول فوق رأسي. فعشت وأهلي محنة لا أعلم بنتيجتها...» (ص 555)
وخامس وجوه العنف عدم تمتيعه بالحصانة البرلمانيّة رغم أنّه كان نائبا بالبرلمان.
وسادس وجوه العنف منعه من مزاولة بقيّة مهامّه في الحزب وفي بلديّة قصور السّاف ومنعه من مواصلة إصدار مجلّة الفكر التي ظلّ يشرف عليها طيلة ثلاثة عقود بصفة تطوّعيّة، ويفتخر بها ويحنو عليها.
وسابع وجوه العنف عدم ردّ المسؤولين على مراسلاته التي كان يدافع فيها عن نفسه ويطلب الإنصاف وفكّ الإسار.
وثامن وجوه العنف المنع من حضور التّظاهرات الثّقافيّة والمنع من الظّهور في وسائل الإعلام.
وتاسع وجوه العنف التّضييق على حرّيّة التّعبير والمنع من النّشر...
لقد أزاحت الثّورة التّونسيّة كابوس ما سمّاه الفقيد بـ»الماكينة البوليسيّة»، فعاد إلى الظّهور وكتابة مقالات الرّأي، وغلبت البشاشة على وجهه، وبدأت بوادر الاعتراف بأهمّيّة كتاباته وأهمّية الدّور التّأسيسيّ الذي قام به عندما تولّى وزارة الشؤون الثّقافيّة.
ولئن كان هذا الاعتراف محمودا وضروريّا فإنّه حسب رأيي غير كاف.
إنّه غير كاف لأن مسار العدالة الانتقاليّة كان متعثّرا وخاضعا لحسابات سياسويّة، بحيث لم يثق فيه البشير بن سلامة ولم يتّجه إليه، ومن المؤكّد أنّ هيئة «الحقيقة والكرامة» لم تنصف بما فيه الكفاية محمّد مزالي وأسرته ومن عمل معه ومن عُدّ من أنصاره.
وهو غير كاف لأنّنا لم نُرس بعد دولة القانون التي تحول دون الإجراءات الانتقاميّة الظّالمة، ولم نرسّخ الأخلاقيّات الدّيمقراطيّة التي تقي من المتعة المطلقة بالسّلطة، وتحرّر العمل السّياسيّ من الخوف، وتغلّب منطق الكفاءة والاستحقاق على منطق الولاء السّياسيّ، وتحرّر الإدارة من الحسابات السّياسويّة، وتحترم الاختلاف، وتعتبر إبداء الرّأي في الشّأن العامّ من حقّ كلّ مواطن، وتعيد الثّقة في كفاءات البلاد، وتضع حدّا للقضايا الكيديّة ولاستخدام القضاء في تصفيات الحساب الشّخصيّة.
كتب البشير بن سلامة في نفس الكتاب (ص 575) : قال أبو العتاهية :
«لَموْتةٌ تأخذ الإنسانَ واحدةٌ
خير له من لقاء الموتِ مرّاتٍ
ولكن لتعس المثقّفين في تونس فهم يموتون مرّات !»
فالعنف السّياسيّ قتل للنّفوس، وموت متكرّر. وأوّل علاج له إنصاف ضحاياه، والوقوف في وجه من يريدون تأبيده، والمطالبة بتوفير شروط الوقاية منه.