وذلك ليس لعدم رغبة منّي الاستماع إليه، أو لانعدام أهمّية الموضوع الذي خاض فيه، بل لأنّ خروجه الأخير علي الشاشة جاء في صورة مغايرة تماما لتلك التي كان يظهر فيها واثقا، حازما، حاسما في كان يطرحه من أفكار ووعود، لكنه في هاته الحصة لم يكن مقنعا في نزع المسؤولية عنه وإلقائها على كاهل الرّئيس في الخيبة الحاصلة في كتابة «الدستور وترك انطباعا أنّه جاء للثأر والتعويض عن خسارته.
كانت بداية بروز الأستاذ أمين على الساحة من خلال الجدل القانوني حول النزاع الذي جدّ بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة «هشام المشيشي» بخصوص أجراء هذا الأخير تحوير وزاري على حكومته وعرضه على البرلمان، وقد انحاز فيه الأستاذ لرئيس الدولة بالكامل مضفيا شرعية مطلقة على موقف الرئيس من خلال تأويليه لفصول الدستور في قراءة لم يشاطره فيها أغلب زملائه من أساتذة القانون الدستوري ، وبعد حدوث 25 جويلية سطع نجمه وأصبح المفتي الأوّل في القانون الدستوري إلى جانب الرئيس، كان دوما في المقدمة للتفسير وللتبرير ولإضفاء الشرعية عن كلّ ما يصدر عن الرئيس، وكان رأس الحربة في مجادلة زملاءه وكلّ من يعتبر ما قام به الرئيس فيه خرق حتى للفصل 80 من الدستور الذي استند عليه، لم يكتف بدور المفتي الدستوري بل صار المستشار والناطق الرسمي والمهندس لمشروع الرئيس، كان دوما حاضرا لفكّ عقدة ببند من بنود الدستور للتسهيل على الرئيس تمرير إجراءاته ولتفسير لبس ببعض الإجراءات وتوضيح الأهداف القريبة والبعيدة إلى أن حصل ما حصل له من صدمة بعد أن سحب الرئيس البساط من تحت قدميه بإلقاء عمل لجنته في سلة المهملات والدفع بدستوره، قد يحسب للأستاذ أنّه لم يسكت وأنكر ما جاء في دستور الرئيس، لكنّ الغريب في الأمر انّه مازال يفاخر بكونه مهندس الأمر 117، ذلك الأمر الذي اعتبره جلّ رجال القانون بالداخل كارثة قانونية وأنّه سيفتح الباب على مصراعيه لعودة الحكم الفردي بمنح رجل بمفرده سلطات لم يحصل عليها قيصر الروم دون الخضوع لأي شكل من أشكال الرقابة، كانت حجة الأستاذ بأنّ ذلك إجراء ظرفي للتخلّص من المنظومة السابقة والمرور على «ديموقراطية حقيقية.
قد يكون الأستاذ ضحيّة الإفراط في ثقته بنفسه أكثر منه ضحية تلاعب الرئيس به، فمعرفة توجهات هذا الأخير لا تحتاج إلى كثير من الذكاء بل كانت واضحة في خطبه وكلّ تصريحاته، فكيف لم يتفطن لذلك الأستاذ ويسمح لنفسه بتفنيد ما كان يروج عن طبيعة مشروع الرئيس ويقدّم وعودا حول مضامين الدستور الجديد بفصل الدين عن الدولة والتنصيص يبلغ درجة السماح غير المسلم الترشح لرئاسة الدولة إلى جانب حزمة من الحقوق والحريات الغير مسبوقة، ويقول الأستاذ أنّه انخرط في ذلك بقوة ليس فقط لثقته في الرئيس بل لوجود خُدع ضمانا منصوصا عليه بالأمر 117 بتكليف لجنة لإعداد الدستور، لكن أيضا هذا يطرح سؤال أخر، كيف لم ينتبه الأستاذ بأنّ الفصل 22 من الأمر لا يرقى إلى ضمانة قانونية صلبة ضمانة وينص على «استعانة بلجنة في إعداد الإصلاحات» دون حتى تحديد صلاحيات لها بما يعنى ترك القرار الفصل للرئيس ، وذلك ما تمّ فعلا بإلغاء نتائج أشغالها بجرة قلم ، إذن إذا كان الأستاذ بات يقرّ بإنّ الرئيس فقد الشرعية فإنّه لم يفقدها بعد إصداره دستوره يوم 17 أوت، فالأصحّ أنّه فقدها منذ 22 سبتمبر2021 بعد أن فكّك دستور أُنتخب على أساسه وأقسم على احترامه مستندا على الأمر117 الذي تمكّن بواسطته من تنظيم ما يسمي بالاستشارة الشعبية، وتشكيل تلك لجان والتصرف في كتابة دستوره بطريقة لم يشهد العالم مثيلا لها وعرضه ذلك على الاستفتاء وما شابه من ارتجالية كي يبلغ في النهاية للتصديق بنفسه على دستور أعدّه لنفسه
قد تكون نية الأستاذ ودوافعه في ما ذهب فيه عكس ما تروّج له بعض الالسن الخبيثة من ووجود صفقة بعلاقة بمطمح شخصي له والدليل أنّه انتفض ولم يصمت مثل الكثرين، لكن الكثيرين حتى من بين أصدقائه يؤاخذونه أنّه تأخر كثيرا في ذلك وكان عليه أساسا كرجل قانون أن لا يدع ذلك التعدّي الصارخ على استقلالية القضاء وعلى حرمة وسمعة سبع وخمسين قاضيا بعزلهم دون أي مستند قانوني والضرب بعرض الحائط بحكم المحاكمة الإدارية لفائدتهم يمر دون أن يتباين منه أو أن يشارك في استعمال نفس حجج الرئيس لتبرير ضرب استقلالية القضاء بدعوى الإصلاح.
نتفهم الألم والإحباط اللذين يشعر بهما الأستاذ اللذان دفعاه للظهور إعلاميا من والتّحدّث بفصاحته المعتادة والتي فيها شيء من النقد الذاتي، لكن يبدو أنّ في ذلك شيء من الاستعجال وكان الأفضل له التريث والانتظار حتى يستكمل المسار بانتخابات 17 ديسمبر المقبلة وتصبح الصورة حينها مكتملة أمامه كي يقيم دوره ومسؤوليته في ما آلت إليه أمور البلاد ويتخذ له موقعا جديدا ...