خفايا ومرايا: الثمن المحتوم

«هؤلاء الذين لا يتذكرون الماضي محكوم عليهم بإعادته»
جورج سانتيانا

«إلى أين تسير البلاد»، هو السؤال الذي يسيطر على أذهان الناس هذه الأيّام، حالة الحيرة والقلق باتت تُقرأ على وجوههم بوضوح، لم يبق سوى أتباع الرئيس الذين ينكرون وصول الوضع إلى طريق مسدود، لكن كلّ المؤشرات واضحة للعيان ولا تحتاج إلى كثير من الجهد لمعاينة كارثية بعض الأوضاع المعيشية والاحتقان الشديد الذي يطبع الحياة السياسية والاجتماعية، لا شيء من تلك التّعهّدات التي قّدمت غداة منعرج 25 جويلية ، لا المحاسبة ولا الحرب على الاحتكار ولا الكشف عن الملفات الخطيرة ولا استعادة الأموال المنهوبة، الشيء الوحيد الذي ربّما تحقّق من تلك التّعهّدات هو شيطنة الأحزاب والنخب وعزلها عن الفعل السياسي
لكن رغم انقلاب مواقف الكثير من المساندين لذلك المسار وتوسع قاعدة الغاضبين عنه، لا شيء يوحي بإمكانية قيام القائم عليه بتعديله ولو بعض الشيء، فهيئة الانتخابات التي باتت رأس حربته تُعدّ لانتخابات 17 ديسمبر في تحدّ صارخ لكلّ المرجعيات القانونية والفعاليات المدنية التي تُجمع على فقدان تلك الانتخابات مقوّمات النّزاهة والشفافية، إذن هذا يغلق الباب نهائيا عن أولئك الذين ما زالوا يأملون في جمع الرئيس والمعارضة في حوار وطني للتباحث في سبل حل الأزمة ويقطع كلّ شكّ حول قناعة الرئيس بدفن الماضي بكلّ تفاصيله وشخوصه وحتّى أولئك الذين أُضطرّ للتعاون مهم سيلحقهم بالبقية حالما يستقرّ له الوضع ويبدو أنّ لا شيء سيمنعه من فعل ما يريد في ظلّ غياب قوّة سياسية فعلية قادرة على الـتصدي له، المصيبة التي تتكرّر لدى المعارضات والنخب في البلاد هي ظهورها بمظهر العارف بخيوط اللعبة والمستشرف الجيد لمستقبل الأحداث ويعجزون عن تحويل ذلك إلى برامج ومشاريع وفعل سياسي ميداني، هل يكون ذلك الوعي مزيفا ولا صلة له بالواقع لذلك لا ينفذ إلى عمق المجتمع وتبقى تلك النخب منفصلة عن عامة الشعب دون تعميم طبعا، أم أنّ تلك النخب تريد أن تبقى في حدود الجدل والتفكير نأيا بنفسها عن خوض معارك تكون مكلفة على واقعها ومصالحها وهي تنتظر أن يأتي لها الحلّ من وراء الحجب أو ينزل مع الأمطار، هنا كلّ الجهات تنظر إلى الخارج بأعين حالمة، وعلاقة الطبقة السياسية التونسية بالخارج وتحديدا الغرب مزدوجة كعلاقة العشيقين أحيانا تبلغ «ذروة الحب « فهو الصديق والشريك حين تحتاج لدعمه في المساعدات والقروض لتنفيذ المشاريع واحيانا «ذروة الكراهية « ويصبح المستعمر وناهب الخيرات حين يتعارض مع مصالحها ، فقد شهدنا كيف بعد الخطاب السيادي المتحدي للخارج بسبب احترازه على توجهات ما بعد 25 جويلية وذلك الاستخفاف بالمؤسسات التقييمية الدولية(وكالة التصنيف الائتماني ولجنة البندقية وينتهي الأمر بارتماء حكومة الرئيس بين أحضان صندوق النقد الدولي والقبول بمساعدة أمريكية تكتسي صفة الشفقة، ورأينا من يتابع بشغف وبأعين حالمة تصريحات وتحركات الديبلوماسيين الغربيين أملا في أن تجبر الرئيس على التراجع في خياراته ونسي الجميع بأنّ الغرب لا يعرف منطق العواطف والصداقة المجرّدة وأنه لا يضع ثقله في تدخّل خارجي إلاّ إذا كان سجني مصالح تفوق ما يضعه من إمكانيات في ذلك التّدخّل وكما قال كيسنجر عندما جوبه بسؤال حول دعم أمريكا لدكتاتوريات أمريكا اللاتينية «نحن لا يهمّا من يحكم بقدر ما يهمّنا من يخدم مصالحنا»، لذلك لن يبكي أحد إذا الديمقراطية في تونس، لأن إيمان العالم قويا بما فيه الكفاية بأنّ ذلك البلد الصغير مثل تونس يمكن أن يكون رائدا في الجمع بين الديمقراطية والرخاء الاقتصادي والاجتماعي في منطقة يرونها غير مؤهلة لاحتضان الديموقراطية، لذلك لم يكن الدعم بالحجم المطلوب كما كان في أروبا الشرقية في وقت من الأوقات
الخلاص من هذا الوضع إذا أردنا أن لن يأتي من الخارج أو لا ينزل من السماء يستوجب استعداد الجميع للجلوس على كرسي للاعتراف بالخطايا التي ارتكبوها في حق البلاد ومستقبلها، فهذه المرّة لن يفلت أحد من دفع الثمن، وثمن الفرجة لن يختلف عن ثمن تزييف الواقع والاستثمار فيه، و مدعوّ إلى اللّعب بأوراق مكشوفة ، البلاد تحتاج إلى عملية قيصرية لتخليصها من الأورام التي أصابتها وهذا سيكون له كلفة باهضه ويتطلّب تضحيات جسام ستدفع طوعا أم قسرا وأوكد الأمور هي التهيؤ لاقتسام التضحيات للتخفيف من الأوجاع التي سوف لن تستثني أحدا من أطراف المجتمع،
البلاد والدولة والشعب لن ينتهوا كما يردد الموغلون في التشاؤم لكن بقايا الجرح قد تستمرّ ويرثها أجيال قادمة لا ناقة لها ولا جمل في ما يحصل للبلاد اليوم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115