من الثّوابت في التّعامل الاجتماعيّ ذمُّ الكذب. بل إنّ النهيَ عنه والحثّ على اجتنابه من الأوّليّات الأخلاقيّة الأساسيّة الجامعة بين الثّقافات البشريّة على اختلافها وتنوّعها. فالكذبُ، في مفهومه الشعبيّ البسيط، خطابٌ ماكر يقصد به المتكلّم مغالطة المخاطَب بحمله على تصديقِ قولٍ يعتقد قائلُه أنّه غير صادق. وتكمن خطورة الكذب، من هذا المنظور، في كونه يهدم ما يسمّيه غرايس عقد التّعاون الجامع بين المتكلّم والمخاطب، ومن أهمّ بنود هذا العقد الاقتصارُ على إنجاز القول الصّادق المفيد، تحقيقا للتّواصل النّاجح.
على أنّ التمثّل الاجتماعيّ للكذب وما يحفّ بالمفهوم من أحكامٍ أخلاقيّة وعقائديّة وقانونيّة ليس إلّا جانبا يسيرا من شبكة اصطلاحيّة معقّدة يكون فيها للكذب مدلولات مختلفة تتنوّع بتنوّع زوايا النظر، وتتعدّدُ بتعدّد المباحث التي اتّخذ بعضها من الكذب وما يترتّب عليه من قضايا مفهوميّة مادّة للدرس حتّى أضحى موضوعًا علميّا تُصاغ لتفسيره وتفكيك الآليّات المسيّرة له فرضيّاتٌ مختلفة.
فالكذبُ من وجهة نظر فلسفة الأخلاق غير الكذب من وجهة نظر ابستيمولوجيا العلوم، وكلاهما مختلفٌ جوهريّا عن الكذب من منظور علم الدلالة المنطقيّ أو من منظور علم النقد الأدبيّ، ناهيكَ عن الدلالات المتشعّبة للمفهوم في مدوّنات علم النفس السلوكيّ، أو ضمن المقاربات السوسيولوجيّة المهتمّة، على سبيل المثال، بدراسة أساطير الشعوب والخرافات الشعبيّة.
وليس التباينُ في مدلولات الكذب وتعدُّد مفاهيمه أمرًا تكشفه المقارنة بين الاختصاصات فيما بينها فحسب، بل إنّ تعدّد المدارس والاتّجاهات داخل الاختصاص المعرفيّ الواحد كثيرا ما أفرز تمثّلات مختلفة للكذب ترتّبت عليها نتائج متضاربة. فإذا كان الكذبُ في فلسفة الأخلاق الكانطيّة مثلًا أمرًا مذمومًا بإطلاق أيًّا تكن دوافعه ونتائجه، فإنّ الاتّجاه البراغماتيّ قد أوجد له فوائد تدرك عند معاينة آثاره، ليسَ أقلَّها بلوغ الغايات بأيسر السبل.
ومن المفيد التذكير بأنّ الدرس الدلاليّ اللسانيّ قد استعار في مراحله المبكّرة مفهوم الكذب من المنطق الصوريّ، فجرى مجراه في اتّخاذ الكذب ( (Falsityقيمة مقابلة للصدق تُسند إلى دلالة الأقوال بالنظر إلى مدى مطابقتها أو مخالفتها لحالة الأشياء في الكون. ولا يرتبط الكذبُ من هذا المنظور بنيّة المغالطة، فالقول الكاذب هو القول المخالف لمعطيات الكون الخارجيّ وإن يكن المتكلّم قد صدر عن الاعتقاد الجازم بصدقه. ورغم أنّ هذا المنهج في حساب دلالات الأقوال سرعان ما أظهر قصوره لاعتبارات مختلفة كان الدرس التداوليّ سبّاقًا في إبرازها، فإنّ علم الدلالة، لا سيّما في المرحلة العرفانيّة، ظلّ متمسّكا باستثمار مفهوم الكذب ولكن على صورة جديدة مختلفة عن صورته المنطقيّة،إذ حوّل اهتمامه إلى ما سمّاه المخالف للواقع (counterfactual)، وهو مفهوم قديم ظهر في الفلسفة متّصلا بمشاكل الحساب المنطقيّ لدلالات الصدق والكذب ثمّ تنازعته اختصاصات مختلفة اتّفقت على أنّ مخالفة الواقع ليست مجرّد لعبة لغويّة لتقديم الصدق مشروطا بالكذب وإنّما هي مظهر أساسيّ من مظاهر العرفان ونمط مخصوص من أنماط التعقّل والتفكير بما يجعلها موضوعا أساسيّا في كلّ اختصاص يزعم تقديم وصف علميّ للقدرات الذهنيّة وآليّات اشتغالها.
تلفتُ هذه المقاربات النظر إلى أهميّة الكذب بوصفه كفاءة عرفانيّة متقدّمة استطاع بفضلها الإنسان أن يحوّل تمثّلاته المخالفة للواقع إلى أدبٍ وفنّ، فليست المنتجات الأدبيّة، وضروب التجسيد السينمائيّ والمسرحيّ، وأنماط التشكيل الفنيّ، وغيرها من أشكال الخلق الإبداعيّ،إلّا وجوهًا مِن تصريفِ هذه الكفاءة العقليّة الفائقة لإغناء الطبيعيّ بالثقافيّ ضمن سيرورة الترقّي الإنسانيّ على امتداد التاريخ.
ولا تبحث هذه الندوة في الصلة العرفانيّة بين الكذب والتّخييل فحسب، بل تطمح إلى اقتفاء الآثار الدالّة عليه في المنتجات الثقافيّة والعلميّة على تنوّعها، وتتعقّب طرق مقاربته في الخطابات العالمة، دون أن تغفل عن تقصّي الاستراتيجيّات التداوليّة التي تعتمده لمغالطة المتلقّي والتحكّم فيه.
وإذا كان الكذب قضيّة مركّبة تدخّلت علوم ومعارف شتّى في فهمها وتدبّر أمرها، فإنّه يمكن قراءتها استئناسا بشبكة المداخل والأسئلة التّالية
• هل الكذبُ مجرّد إنجازٍ لغويّ غير مطابق للواقع أم هو آليّة ذهنيّة تستخدم في التعقّل والتمثيل؟ أيّ دور لهذه الآليّة في بناء تصوّراتنا حول أنفسنا وحول الكون؟
• كيف قاربت المباحث اللغويّة، بفروعها المتنوّعة، استعمال المتكلّم اللسان في غير ما جُعل له في الأصل وهو الصدق المطلق؟ ما أثر ذلك على مباحث النفي والشرط والاستعارة والاقتضاء والتباس القراءة في سياقات الاعتقاد وغيرها؟
• هل الكذب استراتيجيّة خطابيّة؟ ما هي الآليّات المستخدمة في صناعة المغالطة وأيّ صلة لها بالكذب؟ هل تتأثّر منزلة الكذب ووظيفته بجنس الخطاب الحامل له؟
• على أيّ أساسٍ بُني ما يسمّيه «شافر» الخدعة اللعبيّة المشتركة التي بمقتضاها يتواطأ المتلقّي مع الباثّ لتصديق ما يعرف قطعًا أنّه كاذب؟ وهل يظلّ هذا التواطؤ قائما بنفس المقدار حين يتغيّر العقد الضمنيّ الجامع بين الطرفين في أجناسٍ أدبيّة أوهى صلةً بالتخييل في الظاهر، كالسيرة الذاتيّة مثلا؟
• كيف تطوّر تاريخيّا تعامل فلسفة الأخلاق مع الكذب؟ وأيُّ منزلة للأقوال غير القابلة للتكذيب في الابستيمولوجيا؟
• كيف تعامل علم الاجتماع مع الكذب ظاهرة؟ وأيّ دورٍ كان لها في التمييز ثقافيّا بين العلم والدين والسّحر من جهة، وبين والخرافة والأسطورة من جهة أخرى؟
• هل استطاعت كتابة التّاريخ أن تحصّن نفسها من الكذب؟ كيف نجحت في أن تحوّل بعض الأكاذيب الظّرفيّة إلى حقيقة دائمة؟ وعلى أيّ نحوٍ تعاملت الدراسات الحضاريّة والنقديّة مع محاولات تشكيل التاريخ على المقاس، وتسويق الآراء الذاتيّة على أنّها حقائق كونيّة؟ وما هي مقالة الأديان والكذب؟ وماهي علاقة المعرفة الدّينيّة به.
• هل أن الكذب ظاهرة لغويّة صرف؟ كيف تُحوّل الصورةُ الكاذبَ إلى صادق؟ وكيف تستثمر السياسات الإعلاميّة الكذب لصناعة الرأي العامّ أو التأثير على السوق عبر ترويج منتجات الإشهار؟
• هل الكذب سلوك طبيعي يأتيه كلّ الناس؟ أم كفاءة اجتماعيّة وسياسيّة واتّصاليّة تتفاوت قدرات الأفراد في امتلاكها وحذقها؟ أم هو خلل مرَضي يحتاج إلى علاج؟ هل له صلة بالانحرافات المولِّدة لأشكال الهلوسة والهذيان وما شابه ذلك من أوهامٍ تُلحَق في التصوّرات الشعبيّة بالمرض العقليّ؟
وإذا كان في وسع الورقات العلميّة الّتي ستُقدّم في هذه النّدوة أن تُسائل النّظريّات النّقديّة والعلميّة والفلسفيّة بحثا عن تعريفها للكذب وتصوّرها له ورصدا لما طرأ على هذا المفهوم من تطوّر من عصر إلى عصر واختلاف من نظريّة إلى أخرى. فإنّ من واجب هذه الورقات أن تتساءل عن وجوه حضور الكذب وكيفيّات تجليه والوظائف التي ينهض بها في أجناس الخطاب. وعلى تنوّعها وتعدّدها وتداخلها يمكن إرجاعها إلى الدّوائر التّالية:
1 - الكذب في الخطابات الرّمزيّة الدائرة على» اليقينيّات» والتّصوّرات الكبرى للإنسان والوجود كالأديان والأساطير.
2 - الكذب في الخطابات التّخييليّة الفنيّة كالرسم والسينما والمسرح... والأدب بأجناسه المتنوّعة من شعر ورواية وسيرة ذاتيّة...
3 - الكذب في الخطابات التوثيقيّة التّسجيليّة الّتي تزعم أنّها تنقل الواقع نقلا صادقا أمينا.
4 - الكذب في الخطابات السياسيّة والإعلاميّة والإشهاريّة والدعائيّة والتّسويقيّة.
5 - الكذب في المحادثات العاديّة اليوميّة.
منبــــر: وزارة التّعليم العالي والبحث العلميّ كليّة الآداب والعلوم الإنسانية بسوسة - جامعة سوسة ندوة علميّة دوليّة: «خطاب الكذب»
- بقلم المغرب
- 10:38 26/10/2022
- 1667 عدد المشاهدات
ينظّم قسم اللّغة والآداب والحضارة العربيّة بكليّة اّلآداب والعلوم الإنسانيّة بسوسة أيام 28- 27-26 أكتوبر 2022 ندوة علميّة دوليّة موضوعها: «خطاب الكذب»