ا ورغبة في المغادرة نجدها لدى الأطباء، الآخرون وفي قطاعات أخرى عمومية ليست لهم هذه الفرصة. خدماتهم لا تجد لها مكانا في سوق الشغل العالمي. ولكن ما يثير التساؤل هو حجم العنف الذي يطال المؤسسات العمومية، عنف إزاء العاملين فيها وعنف إزاء التجهيزات، الأرقام تدلّ أن الظاهرة في ازدياد وأن السبيل الوحيد للتعبير عن الغضب هو العنف و الهجرة نحو آفاق أخرى.
على الأرجح أن مؤسساتنا تتهاوى، المؤسسة التعليمية والصحية والقضائية والإدارية وكل تلك التي تقدم خدمة ما للآخرين. وعلى الأدق برنامجها المؤسساتي هو الذي لم يعد يجدي نفعا ولم يعد قادرا على فهم التحولات السوسيولوجية الطارئة على الأفراد وعلى المجتمع. تشكلت هذه المؤسسات مع مرحلة البناء الوطني من أجل مشروع دمج الفرد ضمن منظومة متماسكة لها من الضبط الاجتماعي ما يجعلها أقرب إلى أن تكون مؤسسات دينية في حجم الإيمان بقدراتها وفي حجم القداسة التي حصلت عليها وفي حجم الإجابات التي توفرها. من يدخل مدرسة ومن يلج مستشفى في تلك المرحلة كمن يتجه إلى مسجد. لا نكاد نفرق في ذلك الوقت بين المدرس والممرض وإمام المسجد بل أنه في أحيان كثيرة يمكن لأحدهم أن يجمع بين هذه المهام مجتمعة. وحتى قيمة الضمير المهني لم يكن لها وجود آنذاك لأنه وبكل بساطة لا داعي لها في تلك المرحلة.
فكرة المجتمع كانت الفكرة المهيمنة آنذاك، إذ يطمح الجميع دولة ونظاما وأفرادا وقوى حية صاعدة إلى إنجاز شيء واحد هو دمج الجميع في منظومة واضحة المعالم تحركها قيم أساسها تنمية الفرد من داخل قوة المجتمع. حينها لم يكن يشعر المدرس أنه يمتهن حرفة. كان اعتقاده راسخا أنه بصدد القيام بمهمة، مهمة تكاد تكون رسولية. ينطبق الأمر على الممرض وعلى ساعي البريد وعلى المشرف على خلية حزبية في قرى تونس النائية.
منظومة تشتغل على فكرة الدمج والإدماج فكان الفاعل أو مقدم الخدمات منضبطا لا بحكم المراقبة والقصاص فقط ولكن بحكم من يحمل مشروعا يؤمن به. الفاعل والمنظومة أو السيستام يشكلان شيئا واحدا إلى أن بدأت ملامح التفكك في الظهور. بقيت المنظومة متواصلة بنفس القيم التي نشأت من أجلها وذهب الفاعل يبحث تدريجيا عن مصير آخر. دخلنا مرحلة السوق بمقتضياتها وإكراهاتها وبدأ الفاعل في التصرف كفرد يبحث عن التحرر من منظومة لم تقدر بما فيه الكفاية قدراته وإنجازاته وطموحاته. العلامة الأولى الدالة على هذا التحول هو الاقتراض. ويعني الاقتراض هنا دخول هذا الفاعل منطق الاستهلاك ثقافة وسلوكا وما حصل هو أن هذا الفاعل وجد هويته الجديدة خارج المنظومة التي كان يؤمن بها بل الأكثر من ذلك لم يعد يثق بها تمام الوثوق. اقتصاد السوق أفقد شيئا فشيئا المؤسسات قدسيتها والمشاريع الجماعية في طريقها إلى أن تصبح مشاريع فردية وبكلفة مادية ورمزية عالية.
الفاعل يتحرك في كل الاتجاهات بحثا عن فردانية جديدة يحتمي بها في حين بقيت المنظومة على حالها لم تتغير بل أنها أصبحت مثيرة للسخرية. لم تتغير المنظومة لأنها لم تستوعب الشروط الديمقراطية لبقائها ولم تستوعب أيضا المتطلبات الجديدة لفردانية صاعدة. في هذا السياق برزت قيمة الضمير المهني لتذكر الفاعل بأنه بدأ في التنكر لمتطلبات المنظومة ولمتطلبات البرنامج المؤسساتي الذي هو أصلا في طريقه إلى التهاوي. هذا فقط ما كانت المنظومة قادرة على فعله، تنادي بالضمير المهني وتنادي بتثمين قيمة العمل، قيمتان لا صدى لهما في أذهان الفاعلين. الإجابات الاجتماعية على مشكلات الأفراد لم تعد تدريجيا إجابات جماعية وهنا مربط الفرس.
الدولة إزاء تكلس منظومة وإزاء تسارع متطلبات الفرد وتوقه للحرية بدت مرتبكة وعاجزة. عجزها نابع من عدم قدرتها على فهم تباين السرعات ومدلولاتها السوسيولوجية علاوة على أنها لا تحمل مشروعا جديدا. المشروع المجتمعي هو الذي يصنع الضمائر، والضمائر هي التي تعطي لأي مشروع مجتمعي قوته الرمزية، هي لا تأتي بمجرد المناداة عليها، أو رفعها شعارا، هذه الضمائر هي الاعتقاد الفعلي للفاعلين في كل ما يقومون به، هي الطاقة التي تعطي للمشروع المجتمعي قاعدته الصلبة. في غياب كل هذا لا يبقى للدولة سوى إدارة الألم الذي ينتج عن انحرافات مؤسساتها سواء في حجم الفساد أو في حجم الكوارث الذي تنتجها. عندما لا يبقى للدولة سوى إدارة آلام الناس فإنها تكف عن أن تكون دولة يثق بها مواطنوها. الدولة في مثل هده السياقات من تهاوي مؤسساتها العمومية منوط بعهدتها إعادة التفكير في حوكمة جديدة لهذه المؤسسات. وتعتمد هذه الحوكمة الجديدة على مقولة الإنصات ويعني الإنصات هنا التقييم الجدي والمتواصل للخدمات المقدمة، ويعني أيضا أن تواكب المؤسسة التحولات التي طرأت على الأفراد عبر إعطائهم القيمة التي يستحقونها وفي الاعتراف بهم كأفراد يحملون متطلبات ولهم ضغوطاتهم الجديدة ومقبلين على تصور آخر لوجودهم. نحن في مرحلة ثار فيها الأفراد على فكرة الانخراط في أهداف جماعية، كل التفكير متجه الان إلى حسن إدارة الروابط مهما كان نوعها. و المؤسسات العمومية و حتى الخاصة الناجحة هي تلك التي تدير بشكل جيد كل ما يتصل بهذه الروابط التي في عمقها إنسانية لا تتعارض مع قيمة الفرد التواق للتحرر و المسؤول عن أفعاله في الآن ذاته.
من أجل الحدّ من هجرة الأطباء و المهندسين والجامعيين، علينا أن نعيد للمؤسسات العمومية حيويتها في علاقة بالتحولات السوسيولوجية. وأوّل عناصر الإصلاح أن تتغذى مؤسساتنا بمقولة الإنصات.