1 - ما يتعلق بالقيادات السياسية عامة ورؤساء الجمهورية خاصة منذ الاستقلال.كل هؤلاء يدشنون حكمهم بمظاهر سياسية إيجابية ووعود مثالية ذات طابع إنساني واجتماعي. وخطب تأكد على رغبتهم في بناء مجتمع يتمتع فيه المواطن بكل حقوقه السياسية والاقتصادية والثقافية. كما تؤكد هذه الخطب أيضا على أن المواطن سيكون أول مستفيد من هذه السياسة في المستقبل. وسيحظى بالمكانة التي تليق به والتي تجعل منه مواطنا فاعلا وشريكا في السلطة. ومن أول أهداف السياسة (الجديدة) تكريس مبدإ العدالة الاجتماعية والعيش الكريم لكل فئات الشعب خاصة تلك التي عاشت سابقا مهمشة ومنسية.
ونجد أن هذه الوعود الأولية التي تم توظيفها في الخطاب السياسي تندثر تدريجيا وتنتهي في غبار التاريخ وتعوض بالواقع المر المتكون من شتى الانحرافات الاخلاقية والقمع والاستبداد وبالطبع تناسي العدالة الاجتماعية والحقوق الفردية والجماعية لتأخذ مكانها سياسة الولاء والانتهازية.
وقد تكررت هذه الأمثلة حتى من قبل الاستقلال حيث كان الأمين باي يحظى بالاحترام والتقدير من أغلبية الشعب التونسي وكانت له حماية معنوية ورمزية وإجماع من طرف ممثلي الحركة الوطنية والنقابية.حيث كان يتمتع على سبيل المثال بمساندة ودعم من فرحات حشاد والطاهر بن عمار وصالح بن يوسف ومحمد شنيق وأحمد بن صالح ... الذين كانوا يمثلون الحزام السياسي والمعنوي للعائلة الملكية. إلا أن الباي خير العزلة والابتعاد تدريجا عن منظومة الاستقلال وهكذا فقد المشروعية التي كانت مضمونة من طرف الشخصيات الوطنية التي تم ذكرها.
أما بعد الاستقلال كلنا نعرف ما حظي به الرئيس الحبيب بورقيبة بشعبية وتقدير واحترام من كافة الطبقات الشعبية ورغم تاريخه المناضل والتحامه بكافة مكونات المجتمع ووعدوه الحضارية وانجازات دولة الاستقلال إنتهى هذا الرجل في أسوء المظاهر السياسية مع إنهيار أخلاقي أدى به لقبول تلك الخرافة ألا وهي الرئاسة مدى الحياة والتي جعلت منه دكتاتورا (عاديا) وهكذا أضاع كل مكونات رصيده الفكري والسياسي.
وتكرر هذا الأمر مع بن علي الذي إعتمد على خطاب سياسي حمل معاني تقدمية في البداية من بينها الحرية والديمقراطية والتداول على السلطة «لا رئاسة مدى الحياة إبتداء من اليوم» وبعد سنوات قليلة تنكر إلى خطابه الذي دشن به الحكم وتحول إلى دكتاتور محنك يعتمد على البوليس والمافيات والجهويات. وتأكد أن ليس له مشروع اقتصادي وثقافي ماعدا الانفراد بالسلطة...
أما في ما بعد الثورة لم يفاجئنا الرئيس المؤقت منصف المرزوقي (الحقوقي) بسلوك مغاير فبقي مترددا دون مشروع حقيقي ذا أبعاد استراتيجية فبقي يكرس ممارسات تقليدية لإرضاء الأحزاب التي جعلت منه رئيس الجمهورية وكانت نهايته عادية وبسيطة دون أي رمزية تاريخية وسياسية تذكر.
أما بالنسبة للرئيس الباجي قائد السبسي فقد دشن حكمه بخطب وطنية تصالحية تضمن الحريات وحقوق الانسان وتعطي للجهات المهمشة الحق في التنمية وأسس حزب ووصف في البداية بالحزب الوطني الجمهوري ولكن بعد أقل من سنتين من ترؤسه للجمهورية التونسية انحرف هذا الحزب (نداء تونس) إلى تحالف مجموعات وذاتيات انفصالية بالإضافة إلى كل من كان يروى حول الابن الذي يرى في نفسه الوارث الوحيد لأبيه،بالإضافة إلى كل ما حصل من تراجع عن المبادئ التي دشن بها حكمه والتي اندثرت في غبار التوافق.
وأخيرا لم يتغير هذا السلوك السياسي برئاسة قيس سعيد الذي حظي بمساندة شعبية استثنائية والتي نراها تندثر يوما بعد يوم وذالك لعدم وضوح مشروعه السياسي الذي بقي سجينا للشعبوية المثالية .كما أن هذا المشروع لم يحقق إلى حد الآن أي تحول ملموس في حياة أغلب الشعب بل بقي هذا المشروع مرتبطا على المستوى الرمزي والواقعي على الحكم الفردي والذاتية السلطوية، واليوم تتعدد التساؤلات ما هي الغاية التي يريد الرئيس تحقيقها وكأنه يسير في نفس السياق كبقية الرؤساء الذين سبقوه:التفريط في ثقة الشعب التي حظي بها في الانتخابات الرئاسية 73 %.
2 - تتمحور بعلاقة السلطة بالمشروع السياسي ففي هذا المجال نريد أن نذكر أن كل المحاولات التي تهدف إلى تغير فوقي لهوية المجتمع التونسي وفرض نموذج اجتماعي وثقافي وإقتصادي، دون تشريك المنظمات الوطنية والأحزاب السياسية انتهت بالفشل وتدمير طموحات الشعب التونسي وتهميش مطالبه الأساسية «الشغل والحرية والكرامة والوطنية» ونذكر بعض الأمثلة في هذا المجال ومن بينها:
- محاولة فرض الاشتراكية الدستورية وتركيز التعاضديات والشعب المهنية في كامل تراب الجمهورية يشرف على تسيرها الحزب الواحد،وذلك بعد تفكيك الأحزاب والنقابات والمنظمات الوطنية. ورغم المساندة المطلقة للرئيس الحبيب بورقيبة لهذا المشروع الاشتراكي الدستوري اندثر بعد سنوات قليلة ايدلوجية ومنظومة الاشتراكية الدستورية لا لأنها من منطلق بيروقراطي فقط بل لأنها فوقية دون حوار مسبقا وتشريك المنظمات النقابية والوطنية في هذا الاختيار.
3 - تتعلق بتجربة الهادي نويرة والتي كانت ترمي إلى بناء مجتمع ليبرالي والتخلص شيئا فشيئا من القطاع العمومي والدخول في مجتمع رأس مالي تديره برجوازية ساهمت في تكوينها الدولة لتصبح المساندة المطلقة للنظام السياسي والحزب الواحد والرئيس الواحد وطبعا اندثرت هذه التجربة الفوقية ايضا وانتهت بأكبر كارثة سياسية واجتماعية في 26 جانفي 1978 (الخميس الاسود).
4 - تندرج في الفترة الأولى لما بعد الثورة حيث حاولت حركة النهضة تكريس الاسلام السياسي وفرضه على المجتمع التونسي بطرق مختلفة يطول ذكرها: مجموعات حماية الثورة خيام البروبڤندا الدينية، محاولة احتلال المساجد والكليات الاعتماد على الدعاة من الخارج إلى غير ذلك كما حاولت حركة النهضة ومسانديها أن تعطي الدستور صبغة اسلاموية وشعبوية (تعتمد على الشريعة الاسلامية) يهدف إلى فرض نموذجا اجتماعيا جديد وهوية نابعة ومفروضة من الفوق. إلا أن هذا المشروع اندثر لا لأنه يحمل ايديولجيات الاسلام السياسي فقط بل لأنه فوقيا(hexogène ) كبقية البرامج السياسية السابقة.
5 - إن البرنامج وأبعاده الفكرية التي تقدم اليوم من طرف رئيس الجمهورية قيس سعيد تبقى غير واضحة المعالم حيث أن هدف هذا البرنامج يرمي إلى تغيير هوية المجتمع التونسي من خلال تصور مجتمع (مثالي) تحت شعار «الشعب يريد» والذي يتغير حسب خطب الذين يدعون إلى تفسير هذا البرنامج السياسي (الفريد من نوعه والمنشود).ان هذا المشروع في مظهره الحالي يعتبر أيضا فوقيا تنزل بدون حوار سياسي واجتماعي وثقافي ولذا فهو شبيه التجارب الماضية التي فشلت لنفس الأسباب.
لتفادي ما سبق في التجارب المذكورة، على رئيس الجمهورية أن يفتح حوارا مع كل الأطراف السياسية والاجتماعية (توجد العديد من نماذج الحوار) التي يمكن اعتمادها وذلك لتحديد الأولويات السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية التي يمكن من خلالها انقاذ البلاد من التفكك والانهيار.
دروس من التاريخ السياسي التونسي (منذ الاستقلال)
- بقلم رضا التليلي
- 09:33 19/10/2022
- 2143 عدد المشاهدات
إذا إطلعنا على التاريخ السياسي التونسي منذ الإستقلال وتمعنا فيه نتبين أنه يحمل خصوصيات تكاد بلادنا تنفرد بها بلادنا. ويمكن تلخيص أهمها في بعض الملاحظات التالية: