في بعض خطورة الاختصاص المفرط

«نظام التفاهة» ((La médiocratie هو كتاب أصدره الان دونو، الأكاديمي واستاذ الفلسفة في جامعة كيباك ، كندا، سنة 2017،وهو الكتاب الذي اثار

ضجة كبيرة بسبب الأفكار التي طرحها وتشريحه الصارم للمجتمعات الحديثة حيث يسيطر التافهون على كل مفاصل الحياة العامة ، ابتداء من السياسة والثقافة ووصولا الى التعليم ومراكز البحوث، والكاتب ،الذي يثور ضدّ هيمنة مظاهر الابتذال والسطحية التي فرضها النظام العالمي الحالي وارتداداته السلوكية والأخلاقية والاجتماعية، يعتقد ان نهاية العالم «لن تكون بسبب القنبلة الذرية ، كما يحاول ان يوهمنا الاعلام ، بل بسبب الابتذال والافراط في التفاهة» التي من نتائجها الوخيمة ان عمّت السلبية والانانية وساد الركود الفكري وسيطر الحياد السلبي تجاه كل القضايا العامة، حتى الانية والحارقة منها ، وبسبب اهتمام المواطنين المفرط بمشاغلهم اليومية البسيطة والروتينية ، تبرمت الشعوب من مناقشة الأمور السياسية والاجتماعية والفكرية الهامة، بل وأصبحت تنفر حتى من الحديث عن مستقبلها ومآلات الأجيال القادمة ، و ما ان « هُمشت منظومة القيم وبرزت الأذواق المنحطّة، وأُبعد الأكفاء، وخلت الساحة من التحديات، (حتّى) تسيّدت شريحة كاملة من التافهين والجاهلين والبسطاء فكريا» لتسيطر على العالم، كما جرى تتفيه الثقافة ، ايضا، ، اذ بدل المثقف الذي يشع بسعة ثقافته وابداعه على من حوله، نجد التافه والسطحي الذي ينشر الرداءة أينما حلّ، وبدلا من الحكيم الذي يفيد بعلمه ومعرفته، تدفعه في ذلك غيريته وعرفناه لمجتمعه وبلده والإنسانية ،يستأسد الخبير أو المتخصص الذي يبيع مجهود عمله لمن يدفع له ، وبمقدار الثمن المقدّم...
ويرى «آلان دونو» أن الجامعات ومراكز البحوث العالمية هي احدى ركائز أنظمة التفاهة لأنها تحولت من منتج للمعرفة الى متاجر بها، لذلك بالغت في التخصص حتى ترضي كبرى الشركات ليصبح العمل الأكاديمي خاضعا لمتطلبات السوق، اذ «ما عاد الطلبة مُستهلكين للتدريس وللشهادات المُقدمة في الحرم الجامعي؛ بل صاروا هم أنفسهم سلعاً، حيث تبيع الجامعة ما تصنعه منهم إلى زبائنها الجُدُد، وتحديدًا إلى الشركات وغيرها من المؤسسات المٌمولة لهذه الجامعة».
وبما ان نظام التفاهة يرادف اليوم المنفعة الربحية والمالية فقط، فقد غابت كل الابعاد المعرفية والأخلاقية والمواطنية التي ترسخ الطالب في محيطه الاجتماعي وتهذب ذوقه وتسلحه بمعرفة علمية شاملة وتمده باليات التفكير النقدي التي تجعله مواطنا واعيا ومتيقظا، مدركا لواجباته ومدافعا عن حقوقه ومتصديا لا فقط للتفاهة والابتذال والتسطيح، بل وكذلك الى مظاهر الظلم والحيف والاستبداد.
ولمواجهة هذا التدمير الذي يطال كل مجالات الحياة، يطالب دونو أولئك الذين لم يطالهم نظام التفاهة ولم تطحنهم الياته الصاخبة بالخروج من تقوقعهم وجمودهم وتوحيد جهودهم لأنه من واجبهم المؤكد ان يواجهوا التخريب الذي يستهدف البشرية على كل المستويات ، الإنسانية والثقافية والاجتماعية والبيئية والاخلاقية...
مثل هذه الأفكار تضعنا امام قضية تعليمية جدّ مهمة، اذ يبدو ان التخصص المفرط الذي يستجيب للمهارات التي يفرضها السوق ولكنه يهمش الجوانب الإنسانية الأخرى لدى المتعلّم موضع اتهام من مفكرين وفلاسفة ومختصين، أولئك الذين انتبهوا لمخاطر تجزئة العملية التعليمية على الحياة العامة.
ادغار موران ، الفيلسوف الذي اهتم بإصلاح التعليم وكتب عديد المقالات والكتب وقدّم المحاضرات في ذلك، يرى بدوره ان الخطورة في تعليم اليوم هي في تفكيك وتجزئة وتفتيت الاختصاصات، والنتيجة هي ان الاختصاص المفرط يمنع الرؤية الشاملة ويقلّص الذكاء ويحدد ابعاده في «قطع منفصلة واحادية» ، لان الذكاء الذي لا يرى تعدد الابعاد ويعجز عن رؤية التحديات في شموليتها وابعادها المختلفة هو ذكاء احادي وقاصر يصنع مواطنين «غير واعين«
ويترتب عن غياب الادراك الشامل حتما «ضعف روح المسؤولية» لدى الناشئة، حيث يصبح المرء منكبّا على اختصاصه، منشغلا به حد الذوبان وغير مهتم بما حوله، فلا شيء يربطه بمشاغل وطنه ومواطنيه وبالتحديات التي تواجهها الإنسانية التي هو جزء منها.
والخطورة الأخرى هي في «تغريب المعرفة» عن الواقع، ذلك ان تلقين التلميذ منذ المراحل الأولى فصل الاختصاصات وتبسيط المعارف وتجزئتها وتفتيتها «يفقد العقول الشابة قابليتها الطبيعية لانزال المعارف في سياقها» العام.
لذلك ما يجب ان يتعلمه التلميذ/ الطالب، ليس ما يفيد اختصاصه الضيّق فحسب، بل ان يكون قادرا على تنظيم معارفه وترتيبها ، وان يكون له الذكاء الكافي لتفكيكها وإعادة تركيبها وادراجها في سياق الحياة العامة، ويربط موران بين المسار التقني العلمي «الحرفي» الراهن، الذي لا يخضع لأي وازع وبين تراجع الديمقراطية وتقلّص فكرة المواطنة وعدم التفاعل مع القضايا الانسانية، فيرى انه من الضروري ان نهيأ الى مواطن واعي ومتوازن وذلك بتخطّي الحواجز التي نبنيها اراديا في تعليمنا بين ما هو ادبي وانساني وبين ما هو علمي، وذلك بإدماج الادب والفلسفة والسينما والفن في الكتب المدرسية واعطائها ما تستحق من مكانة، الى جانب العلوم.
لكن ماذا عن منطقتنا العربية التي تعيش ازمة فقر وبطالة حادة وأزمة قيم إنسانية الى جانب غياب مفهوم المواطنة؟ نادرا ما نطرح، نحن، قضية تكوين المواطن ذي الابعاد المتعددة، الذي لا يلبي فقط احتياجات سوق الشغل (ان وجدت)، بل حاجته الذاتية الى استيعاب قيم مثل الانتماء للوطن والاهتمام بالشأن العام والتعايش السلمي مع من حوله واحترام الثقافات الأخرى والالتزام بمبادئ العدالة والحرية والدفاع عنها.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115