برج بابل: حارس المرمى الذي لـم تحرسه بلاده

الوقت مناسب للرحيل، لا مخاطر في بحر المتوسط، والوصول إلى الضفة الأخرى مسألة مسافة لا غير. الهجرة السرية أو غير النظامية في أوجها هذه الأيام.

الدوافع عديدة والسياقات مناسبة، حتى خدمات الرحيل تحسنت وشبكات الهجرة ما فتئت تعير انتباها لنجاح الرحلة. الحارقون يوثقون تجربة الخروج وتجربة الوصول، ويسمح لهم السياق بالتقاط صور أثناء الرحلة. العائلات هي الأخرى تُعلن عن وصول الأبناء سالمين، والتهاني تأتيهم سريعا، حمدا على السلامة، انتهى الكابوس وانطلقت حياة أخرى هناك.

في الأثناء تأتي صورة حارس مرمى ناد كبير في كرة القدم وهو بصدد الرحيل ضمن قوارب الهجرة. جاءت المعلومات التي تفيد بأنه من الذين حرسوا مرمى بلده في المنتخبات الشبابية وأنه مع ذلك حصل هذه السنة على شهادة الباكالوريا. كل المؤشرات تفيد بأن إمكانية نجاحه ممكنة في تونس، كرة القدم مصعدٌ اجتماعي وإمكانية للاحتراف والذهاب خارج البلد على متن طائرة وليس على متن قارب مُثقل بالعباد، كذلك الباكالوريا التي تتيح له إذا فشل في كرة القدم أن ينجح في الدراسة. فلماذا قرّر الرحيل إذن؟

تبدو المسألة عادية، شاب يحلم بالهجرة ويحاول بكل الطرق تغيير مسار حياته. يقدّم طلبا في التأشيرة ويتمّ رفض طلبه. يترك التوجيه الجامعي وتمارينه في النادي ويركب قارب الخطر. يصل بنجاح وتبدأ رحلة بناء حياة جديدة. ليس وحده في هذه الوضعية، آلاف الشبان يخاطرون بحياتهم من أجل عالم مُتخيل في الضفة الشمالية للمتوسط. عائلات بأكملها مع أطفال قُصّر تنجح في العبور، إذ أصبحت رحلات الهجرة السرية أكثر أمنا رغم حدوث كوارث في عرض البحر.

هذا الشاب لم يجد حظّه في عالم كرة القدم، شعُر بأن مكانه مهدّد وأن مسيرة رياضية ناجحة في بلده وفي ناديه غير مأمونة. وهذا ما يدفعنا إلى تقصي ما يقع في النوادي الرياضية التي أنهكتها المحاباة والعلاقات الزبونية وفقدان الجدارة حضورها في عالم مبني على التنافس. تمثل كرة القدم للشباب مسلكا واختيارا يسمح بضمان الحدّ الأدنى. ولكن الطموح الكبير الذي يحدو أي شاب مؤمن بقدراته يمكن أن يصطدم بغياب واضح للعدالة والمساواة في تقدير الإمكانيات التي يحملها اللاعب الشاب. ويمكن للشعور بالضيم وبالإهانة وبالقهر أن يتحوّل إلى سلوك محفوف بالمخاطر في ردّة فعل فردية قد تؤدي إلى الإرهاب، وقد حصل هذا في تونس، أو إلى الهجرة السرية أو أي سلوك عدواني آخر تجاه النفس أو تجاه الآخرين.

الرهان الكبير، المادي والرمزي، الذي يُدير عالم كرة القدم الآن يجعل من الذين يمارسونها على درجة عالية من التوتر والخوف، إذ أن هذا الحقل مليء بالصراعات والتعفنات ويحتاج البقاء فيه إلى درجة عالية من قوة الشخصية و من الحماية و من الاستعداد لفعل أي شيء من أجل ضمان النجاح. الشاب الذي يحلم بالبطولة في كرة القدم أو في أي رياضة أخرى عندما لا يجدها في الحقل الذي ينشط فيه فإنه سيبحث عن هذه البطولة وهذا التفرّد في مجالات أخرى ولكن بشعور بالإحباط وبالرغبة في الانتقام.

الشبان الذين التحقوا بالتنظيمات الإرهابية وكانوا ناشطين في المجال الرياضي، كان طموحهم كبيرا في الوصول إلى النجومية المادية والرمزية، ولكن حوكمة المجال الرياضي أظهرت لهم أن مبدأ الجدارة ومبدأ الاعتراف بالقدرات غير متاح لمن يعتقد أنه ظُلم أو أُهين. هؤلاء يبحثون عن الذي يعترف بهم ويُعلي من شأنهم ويُحقق لهم نرجسيتهم، ويمنح المساواة للجميع، وعندما لا يجدون ذلك، عندها يمكن للشبكات مهما كان مجال حركتها أن تدخل على الخط وتعطي لهذا الشاب ما يحتاجه من الرضا عن النفس و تعيده إلى دائرة النجومية و الاعتداد بالذات، ولكن بأساليب جديدة قد تصل إلى أقصى درجات العنف.
من المهم التأكيد على أن غياب حوكمة جيدة للمجال الرياضي يمكن أن تضع الشباب في مواجهة مصير مجهول، عندئذ قد تتحول هذه المجهولية إلى عنف تجاه الذات أو تجاه الآخرين .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115