تجاوز معدلات النمو العالمية لغشريتين متتاليتين.وختى خلال الازمة العالمية لسنوات 2008 و2009 التي كادت ان تقوّض أسس النظم العالمي فقد واصلت البلدان الأفريقية في مستوى عال من النمو وأصبحت القارة الأفريقية بعد أن كانت لسنوات طويلة تحمل صورة القتل والحروب والامراض أفق وقاطرة النمو العالمي. ومن قارة بدون امل أضحت افريقيا أمل النمو ومستقبل العالم.
ألا أن هذا الوضع تغير جذريا في السنتين الاخيرتين تحت تاثير صدمتين خارحيتين حادتين.
أما الصدمة الاولى فتهم جائحة الكورونا والتي انطلقت من مدينة يوهان الصينية لتمتد الى كل اصقاع العالم ولتشكل تهديدا صارخا الإنسانية جمعاء منذ بداية سنة 2020.وقد وصلت الجائحة الى القارة الافريقية لتكون وراء صدمة اقتصادية واجتماعية لم تعرف لها القارة مثيلا.وستكون لهذه الجائحة انعكاسات سلبية كبيرة ستتوقف التحسن الذي عرفته اغلب البلدان القارة في محاربة الفقر في السنوات الاخيرة.
وتهم الصدمة الثانية انعكاسات الحرب في اوكرانيا والتي كانت وراء اضطرابات وتقلبات كبرى في الأسواق العالمية وقد تعرضت أغلب بلدان القارة الافريقية من الشمال الى الجنوب لانعكاسات هذه الصدمة وخاصة الانعكاسات المالية والاجتماعية لارتفاع أسعار النفط والحبوب وعديد المواد الاولية المختلفة.
وكانت لهاتين الصدمتين انعكاسات كبيرة على البلدان الأفريقية والتي عرفت اغلبها تراجعا كبيرا ومخيفا للنمو وانخراما لتوازناتها المالية الكبرى وعودة التضخم.
كما كانت لهاتين الصدمتين انعكاسات كبيرة على مديونية اغلب البلدان الافريقية وتزايد الصعوبات في الحصول على التمويلات الخارجية مع تراجع الترقيم السيادي الذي تقوم به المؤسساا الدولية
الى جانب الانعكاسات الاقتصادية والمالية لهاتين الصدمتين فقد كانت لهما انعكاسات اجتماعية كبيرة مع عودة الفقر والتهميش الاجتماعي وانحدار الخدمات الأساسية في ميداني الصحة والتعليم.
وقد اثبتت هاتان الصدمتان هشاشة الديناميكية الاقتصادية التي عرفتها اغلب بلدان القارة منذ بداية القرن.فلم تتمكن بلداننا من تحقيق التحولات الهيكلية الكبرى لنمط التنمية وللخروج من نظام الريع. واعطت هذه الهشاشة تاثيرا كبيرا للصدمات الخارجية وقدرة اهم في زعزعة التوازانات الكبرى للبلدان.
تمر بلداننا بمرحلة تاريخية خطيرة زادتها تعقيدا ثلاث تحولات وتحديات كبرى.
يهم التحدي الأول الاضطرابات السياسية والعسكرية الكبرى التي يشهدها العالم والتي تنم من الفوضى التي نعيشها والتي عجزت المنظومة الدولية على الحدّ منها وايقافها.وستكون فوضى العالم وراء المزيد من الاضطرابات والتقلبات وحالة من عدم الاستقرار التي لن تساعد بلدان القارة على بناء مشروع تنموي جديد.
أما التحدي الثاني فيخص ازمة العولمة وتعثر محاولة بناء عالم ما بعد العولمة.لقد شكل مشروع العولمة محاولة للخروج من ازمة الدولة الوطنية ومجتمع الرفاه منذ بداية سبيعنات القرن الماضي.
وقد نجح هذا المشروع في سنواته الأولى في دفع النمو العالمي والتجارة الدولية وخركة الرساميل والشركات الكبرى والاستثمارات العالمية.وقد فتحت العولمة الباب لبعض البلدان النامية من آسيا وأمريكا اللاتينية وافريقيا الأقتصاد العالمي من بابه الكبير وتصبح قوى اقتصادية ذات قيمة واهمية ولتنذر بداية النهاية للاقطاب الراسمالية التقليدية إلا أن السنوات الأخيرة اثبتت هشاشة مشروع العولمة مع تصاعد الازمات المالية والاجتماعية والمناخية.وجاءت جائحة الكوفيد والصعوبات التي عرفتها سلاسل الإنتاج العالمية مع الحجر الصحي الذي عرفته أغلب البلدان وغلق الحدود لتشكل ضربة قاصمة لمشروع العولمة وتفتح
المجال للبحث عن تنظيم جديد الأسواق العالمية.
وستكون لهذا الغموض في بناء النظام العالمي الجديد انعكاسات كبرى على البلدان الافريقية.
ويحمل التحدي الثالث والاخير المسالة الاجتماعية وانعكاسات مختلف الازمات الداخلية والصدمات الخارجية على أغلب البلدان الافريقية مع تصاعد البطالة والتهميش الاجتماعي وتراجع الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والنعليم .كان لهذه الازمات تاثير على تدهور العقد الاجتماعي في أغلب بلدان القارة.
وقد كانت لهذه الازمات وراء انتشار الجريمة وتراجع الامن وعدم الاستقرار السياسي وبتكون هذه الازمات تراجع النظام الديمقراطي وعاد الجيش والانقلابات العسكرية والاستبداد والشعبوية.وسيكون عدم الاستقرار وراء صعوبة بناء رؤى مشتركة وتعددية.
ان صعوبة مهام اليوم أمام كل المؤسسات الافريقية تكمن في ايجاد الحلول لانعكاسات الصدمات (chocs) الخارجية في عالم متردد وغامض.
لكن وبالرغم من صعوبة المهمة فهي ليست مستحيلة واريد أن اشاطركم تفاؤلي بقدرتنا على رفع التحديات وصياغة السياسات العمومية التي ستعيد الأمل لكافة الشعوب الافريقية. هذا التفاؤل ليس فقط موقفا سياسيا أو فلسفيا مجردا بل هو نتيجة القراءة في الامكانيات التي تتمتع بها كل البلدان الافريقية والتي ستمكن بلداننا من فتح ورقة جديدة في تاريخنا.
لبلداننا شباب متكون احسن تكوين واصبح في السنوات الأخيرة قبلة المؤسسات العالمية.كما أن لبلدان القارة طبقة متوسطة في طور النمو والتطور التي جعلت من اسوق الافريقية سوق المستقبل.كما شهدت أغلب البلدان الافريقية تطور ا كبيراً في التكنولوجيا الحديثة والرقمنة فاق بعض الأحيان مستوى البلدان المتقدمة.
تشكل كل هذه العناصر مزايا وعناصر قوة سيكون لها دور أساسي في بناء تجربة جماعية جديدة.
ان للمسؤولين والحكومات والمؤسسات الافريقية اليوم مسؤولية كبيرة وتتطلب منهم جرأة وشجاعة من أجل إعادة بناء العقد الاجتماعي والمشترك الجمعي في القارة.
• صدمتان وأربع أزمات:
لقد تعرضت اغلب البلدان الإفريقية في السنتين الماضيين لصدمتين خارجيتين وجائحة الكوفيد 19 والحرب على أوكرانيا كانت لهما انعكاسات كبيرة. وتختلف انعكاسات الأزمات الخارجية على بلَداننا بارتباط بعمق العلاقات التجارية مع الاقتصاد الدولي ومستوى الانخراط في الأسواق العالمية ووضع الاقتصاد الداخلي. وقد أظهرت بعض الدراسات الأخيرة مثلا ان ارتفاع نسب الفائده المديرية للبنك المركزي الأوروبي بـ25 نقطة سيكون وراء تراجع النمو في افريقيا بربع نقطة وفي نفس الوقت ان ارتفاع سعر البترول بـ 10 نقاط سيتسبب في تراجع النمو بـ0،5 في البلدان الافريقية.
وتشير النتائج إلى حساسية البلدان الافريقية للأزمات الخارجية والتي تنعكس سلبا على معَدل النمو.
وقد كانت لأزمة الكوفيد انعكاسات كبيرة على القارة الافريقية التي عرفت الانكماش الأكبر رالاخطر في تاريخها مع نسبة نمو سلبية بـ-1.7 سنة 2020.
وستكون كذلك للحرب في اوكرانيا انعكاسات كبيرة على البلدان الافريقية مع التقلبات التي عرفتها الأسواق العالمية وارتفاع اسعار النفط والحبوب والمواد الأولية الأخرى. ففي افريل 2022 عرفت اسعار الحبوب ارتفاعا بـ72. 5 مقارنة بمستواها في افريل 2021. وكانت لهذه التقلبات انعكاسات على الأسواق العالمية وعلى حصول البلدان الافريقية ععلى المواد الغذائية
كما كانت لهاتين الصدَمتين انعكاسات كبيرة على عَديد المستويات في كل البلدان الافريقية من تراجع النمو وانخرام للتوازنات الكبر وصعوبة الحصول على التمويل الضروري وازمة المديونية وصعود الفقر والتهميش الاجتماعي من جديد.
• تراجع النمو:
بعد ارتفاع النمو إثر الجائحة حيث عرفت معدلات النمو البلدان الافريقية ارتفاعا يقَدر بـ6.9 ٪ سنة 2021 سيعرف النمو تراجعا كبيرا خلال السنة الحالية حيث سينزل الى 3.9 ٪ وسيؤدي هذا الهبوط الى تراجع نسبة القارة في الإنتاج العالمي إلى، 4.7 ٪ سنة 2022 وهي النسبة الأضعف منذ 2002.
وقد كانت للجائحة انعكاسات كبيرة نظرا لضعف نسبة التلاقيح في القارة والتي لم تتجاوز 15.3 مقارنة بالمعدل العالمي والذي بلغ 60 ٪.
وقد تأثرت معدلات النمو في أفريقيا بالتغييرات المناخية العامة التي عرفتها القارة. فقد عرفت البلدان الافريقية 131 كارثة طبيعية كبرى بين 2020 و2021 ومنها 90 فيضانا.
والى جانب الازمات الخارجية ساهم عدم الاستقرار السياسي والانقلابات وعودة الحروب منذ سنتين في تراجع النمو.
• انخرام التوازنات الكبرى:
كان للازمات الخارجية كذلك انعكاس على التوازنات المالية الكبرى لأغلب البلدان الافريقية وستكون توقعات العجز في المالية العمومية سلبيا بـ4 ٪ في نهاية سنة 2022.كما سيعرف الميزان التجاري تدهورا كبيرا خلال السنتين الاخيرتين.
وسينتح عن هذا انخرام التوارنات الكبرى وارتفاع الحاجة الماسة للتمويل الأجنبي وارتفاع كبير في مديونية البلدان الافريقية.
• الهشاشة المالية وازمة المديونية:
كانت الاضطرابات والازمات العالمية وراء ارتفاع حاجة البلدان الافريقية للتمويل الأجنبي وارتفاع معدل الدين للناتج القومي الخام 70 ٪ سنة 2022 وقد تجاوزت عديد البلدان مثل تونس هذا المعدل لتقترب من نسبة 100 ٪
وفي فيفري أشارت عديد التقارير للمؤسسات الدولية ان 23 بلدا أفريقيا ومن ضمنهم بلادنا دخلت مرحلة الخطر واقتربت من وضعية عدم القدرة على تسديد التزاماتها تجاه دائينيها.
وازمة المديونية التي دخلت فيها اغلب البلدان الافريقية هي نتيجة للتطور الكبير في اللجوء للدين في السنوات الأخيرة حيث سيرتفع معدل المديونية في البلدان الافريقية من 28 ٪ في 2008 إلى 56 ٪ في 2019 ويصل إلى 70 ٪ سنة 2022 من الناتج الخام
وإلى جانب حاجة البلدان الافريقية للتمويل الأجنبي فان ارتفاع المديونية هو نتيجة كذلك تراجع سعر الصرف لاغلب البلدان الافريقية والارتفاع الكبير لنسبة الفائدة وهبوط الترقيم السيادي لأغلب البلدان الافريقية.
وهنا لابد من الوقوف على بعض المبادرات التي قامت بها المجموعة الدولية الخاصة مجموعة العشرين التخفيف من عبء الدين إلى جانب اصدار صندرق النقد الدولي لحقوق سحب جديدة لفائدة كل الاعضاء والتي استفادت منها كل البلدان الافريقية.
ولئن ساهمت هذه المبادرات في التخفيض من الضغط المديونية إلا أنها غير كافية ولابد ان تشمل كل البلدان الافريقية وخاصة البلدان المتوسطة مثل بلادنا
• أزمة اجتماعية وارتفاع مؤشرات الفقر:
كما كانت للازمات المالية والاقتصادية والاضطرابات في الأسواق العالمية انعكاس على الوضع الاجتماعي في أغلب البلدان الافريقية حيث عرفت ارتفاع معدلات الفقر والبطالة. وتشير الأرقام الأخيرة الى أن 30 مليون شخص دخلوا مرحلة الفقر المدقع و22 مليون فقدوا مهنهم سنة 2020. وستواصل هذا التطور السلبي ليدخل 1.8 مليون خشص سنة 2022 و2. 1 مليون سنة 2023 مرحلة الفقر المدقع.
كما سيكون لهذه الازمات انعكاس كبير على الخدمات الاجتماعية الأساسية كالصحة والتعليم.
كان للازمات الخارجية والاضطرابات في الأسواق العالمية انعكاسات كبري على اغلب البلدان الافريقية من الشمال إلى الجنوب ووضعها أمام تحديات كبرى وجب رفعها لاعادة النمو وبناء العقد الاجتماعي.
• أولويات التنشيط الاقتصادي:
تواجه اغلب بلدان القارة الافريقية تحديات كبرى والتي تتطلب إجابات سريعة لوضعنا على مسار النمو والاصلاحات الاقتصادية الكبرى.
وتكمن مسؤولية الحكومات ووزراء المالية في الاقتصاد ومحافظي البنوك المركزية في صياغة الرؤى الاستراتيجية وتحويلها إلى سياسات عمومية لمواجهة الصدَمتين الخارجيتين والأزمات الأربع الناتجة عنها.
وتكمن في رأيي الإجابات في خمس أولويات أساسية:
• اولا تأثيث الاقتصاد واعادة بناء التوازنات الكبرى وتشكل هذه المسألة أولى أولويات البلدان الافريقية لمساهمتها في توفير التمويلات وفي التخفيض من الهشاشة المالية واللجوء إلى التداين.
وفي هذا الإطار أدعوكم إلى العمل من أجل تطوير النظام الجبائي وفعاليته من أجل تحسين المداخيل.
والمسألة الثانية تهم المديونية والتي يجب تحسين إدارتها من خلال تكوين مؤسسات تهتم بادارة الدين والمطالبة في نفس الوقت بمبادرات اكثر جرأة من المنظومة الدولية لتخفيض من حجم الدين.
• ثانيا تنشيط النمو والعودة إلى نسق مرتفع وهذا يتطلب مساهمة الاستثمار العمومي وان كان محدودا نظرا لعجز الميزانيات العمومية. كما يتطلب من الحكومات رفع الحواجز وتحسين مناخ الأعمال ليتمكن القطاع الخاص من المساهمة بطريقة كبيرة في عودة الاستثمار
• ثالثا دعم التحولات الهيكلية الاقتصادية فقد بقيت اغلب البلدان الافريقية مرتبطة بالقطاعات الريعية ولم تتمكن من تحويل الاقتصاد والاستثمار إلى القطاعات الجديدة ذات الإنتاجية العالية. ولابد هنا من تنظيم صدمة استثمارية ( choc d'investissement) في القطاعات الجديدة والصاعدة من أجل الخروج من الأنشطة التقليدية.
• رابعا دعم التكامل والتعاون الإقليمي الذي قدمت فيه القارة خطوات كبرى ولكن حان الوقت للمرور من النصوص والاتفاقيات وتحقيقها وانجازها علي مستوى الواقع.
• وخامسا إعادة بناء العقد الاجتماعي ذلك ان استقرار عملية التنمية والنظام السياسي يتطلب إعادة بناء النسيج الاجتماعي وجعله أحد أسس قواعد العيش المشترك.
يجد المسؤولون والحكومات الافريقية اليوم أنفسهم أمام مسؤولية تاريخية كبرى لاعادة بناء نمط تنموي جديد يفتح باب المشاركة وفي الثقة في المستقبل. وهذا المسار يتطلب الكثير من الحراة والشجاعة والقدرة على صياغة البرامج الاستشرافية والسياسات العمومية.