يكفي أن تحصل عليها لتنقذ شرفك وشرف العائلة. هو النجاح الأكثر زيارات تهنئة من بين الشهادات الأخرى. يكفي الحصول على الباكالرويا، بعد ذلك لن يسأل عنك أحد. خلّص الباكالوريا واذهب في حال سبيلك، لا لوم عليك بعد ذلك.
تنتهي الاحتفالات وتبدأ الرحلة نحو بناء هوية جديدة، هي هوية مهنية بالأساس. ماذا ستختار وأي المهن تريد. السؤال الذي يجعل جانبا فرحة الحصول على الشهادة، إنها تصبح من الذكريات الجميلة. هناك من ينقم على نجاحك عندما لا يجد له تصريفا مناسبا في سوق التوجيه الجامعي وهناك من لا توصله أعداده الممتازة إلى ما يريد. وهناك من تسمح له نتائجه وموارده المالية بالرحيل بحثا على اعتراف بالشهادة إضافي.
هؤلاء الذين يريدون الرحيل تدفعهم مآرب شتى. منها ما يتصل بتميزهم إذ يعطي الذهاب للدراسة خارج الحدود لنجاحهم قيمة مضافة، لقد صنفتهم وزارة التعليم العالي بالمتفوقين. وخصصت لهم دورة خاصة بهم، فيصبح التفوق الدراسي هنا دافعا للرحيل لجامعات أوروبية فرنسية وألمانية وأمريكية. تفوقهم الدراسي لا يمكن أن تستوعبه الجامعات التونسية. هؤلاء ودعوا وإلى الأبد أي منظومة تشغيل تونسية، ستتابعهم الجامعات والشركات الأجنبية وستعطيهم كل المغريات المادية والرمزية للبقاء هناك. سيعودون إلى تونس من أجل قضاء العطلة لا غير. وفي حالات نادرة سيعودون فتية ذهبيين لإدارة البلاد مثلما وقع في العشرية الأخيرة.
هناك من يريد الرحيل لأن نتائجه لم تسعفه بالحصول على مبتغاه في منظومة التوجيه الجامعي. هذه المنظومة في صيغتها الحالية تدفع إلى الرحيل أيضا. هؤلاء يدفعون المال من أجل المغادرة لدراسة الطب والهندسة واختصاصات أخرى متصلة. تبدأ مع هؤلاء رحلة التسجيل وتتقدم لهم المنظومات الموازية للتوجيه بالرعاية والمرافقة، بيزنس جامعي قدرته التشبيكية فائقة التطور، هناك منظومة خاصة بالجامعات الألمانية وأخرى بالجامعات الفرنسية وغيرها بجامعات ما كان يسمى بأوروبا الشرقية. ولا يمكننا تجاهل من يرغب في الرحيل لمن لم يستطع إلى ذلك سبيلا.
الرغبة في الرحيل ليست دراسية فحسب، هناك دوافع أخرى أحدها البحث عن جودة أفضل للحياة. يتكلّم بعض الأولياء عن عملية إنقاذ لأبنائهم وتهريبهم من بلد لم يعد قادرا على ضمان مستوى عيش لائق. المخاوف ازدادت في السنوات الأخيرة ومنها مخاوف سياسية وأمنية وتشغيلية. عدم وضوح الرؤية جعلت الشباب بكل أصنافه راغبا في الهجرة وهو ما يفسر تواصل الهجرة السرية. جودة الحياة في معانيها المختلفة تقود الشباب إلى البحث عن الطرق التي تعطي لنرجسيتهم معنى. لم يعد الشباب الآن قابلا لمستوى معيشي أقل مما يراه معروضا على شبكات التواصل الاجتماعي. تدخلهم نرجسية الفوارق الصغرى في منافسة مع ذواتهم ومع الآخرين وهي منافسة شرسة لأنها استعراضية وتقاس هوية الأفراد عبر قدرتهم على تخطي المنافسة والاختبار بنجاح.
ليست جودة الحياة وحدها دافعا للرحيل، خوض تجربة بعينها أصبحت من الشروط الأساسية لهوية الأفراد. وتعني التجربة هنا أن يكون الشاب مستقلا، يختار مصير حياته بمفرده، يتحمل مسؤولية اختياراته ويعدل مسار حياته كما يرى ذلك ممكنا. هنا تصبح التجربة ومهما كان شكلها ومضمونها هي التي تعطي معنى لرؤيته لذاته. وقد تصطدم التجربة بمطبات عديدة، هنا تصبح قدرة صاحب التجربة على تجاوز المصاعب إحدى أهم مكونات هذه الهوية. وحده الشاب مطالب بإيجاد الحلول المناسبة لإنجاح التجربة. يستثمر كل الموارد الممكنة من أجل ذلك، وهنا ل يكون الرحيل اختيارا بقدر ما يكون بحثا عن تجربة.