والبرامج الضرورية للخروج من هذه الأزمات ووضع بلادنا على سكة النمو والتحول الاقتصادي نحو نمط تنمية جديد.فمنذ الثورة إلى حدّ اليوم عجزت أغلب الحكومات عن تحديد وبناء التصورات والبرامج لتصير المؤسسات الدولية بوصلة سياساتنا الاقتصادية واختياراتنا الكبرى .
ولفهم هذا العجز في الخروج من الأزمات الاقتصادية قدمت التحاليل و الدراسات عديد الأسباب ومن بينها الأزمة السياسية التي تعيشها بلادنا وصعوبات مسار التحول الديمقراطي.
كما أشار كثيرون إلى التحديات الخارجية ومن ضمنها جائحة الكوفيد 19 ثم التحولات والمخاطر الكبرى القادمة من الاقتصاد العالمي وبصفة خاصة الارتفاع الكبير في أسعار النفط والمواد الفلاحية اثر الحرب في أوكرانيا .
وقد تركت أغلب هذه القراءات جانبا العقل الاقتصادي في بلادنا وعجزه عن بناء الرؤى والتصورات الاستشرافية للخروج من الأزمات .ولنا الكثير من الأمثلة في هذا المجال في السنوات الأخيرة لعل آخرها البرنامج الوطني للإصلاحات الذي قدمته الحكومة مؤخرا والذي اتفق الكثيرون على ضعفه وعدم قدرته على مواجهة التحديات الكبرى التي تمر بها بلادنا .كما يمكن لنا كذلك أن نشير إلى الأفكار التي تمت إثارتها في اجتماعات اللجان الاقتصادية والاجتماعية لإعداد الدستور .
كل هذه البرامج والسياسات التي سبقتها والتصورات التي صاغتها أغلب الحكومات في العشرية الأخيرة دليل على أزمة وفقر العقل الاقتصادي في بلادنا .وفي رأيي فإن هذا العجز ليس وليد اللحظة بل انه يعود إلى سنوات خلت وبصفة خاصة إلى بداية التسعينات حيث فقد التفكير الاقتصادي بريقه ورونقه.فقد نجحت بلادنا منذ بداية الاستقلال في بناء عقل اقتصادي فاعل وذي كفاءة مكننا من بناء السياسات الاقتصادية للخروج من التبعية الاستعمارية والانطلاق في تنويع نسيجنا الاقتصادي .وقد مكن هذا العقل المبدع والخلاق من تمكين بلادنا من تبوإ مكانة هامة ضمن الدول النامية بالرغم من ضعف إمكانياتنا .إلا أن هذه الفترة الخصبة والذهبية للتفكير الاقتصادي في بلادنا ستنغلق تدريجيا لتفتح فترة جديدة من التراجع والتقهقر .
والسؤال الذي يطرح نفسه يهم أسباب هزيمة العقل الاقتصادي في بلادنا .وكيف انغلقت فترة الخصوبة والابتكار لتفتح الباب أمام فترة تميزت بالتبعية والانخراط في ما ينتجه عقل الآخر في المجال الاقتصادي .
لكن قبل الإجابة عن هذا التساؤل سنحاول تحديد أبرز سمات الفترتين في تاريخ العقل الاقتصادي : فترة الخصوبة والإبداع ثم فترة التراجع والعجز .
• العصر الذهبي للعقل الاقتصادي
في بلادنا:
تشكل الفترة الممتدة من السنوات الأولى للاستقلال إلى نهاية ثمانينات القرن الماضي الفترة الذهبية للعقل الاقتصادي في بلادنا .فقد نجح هذا العقل في سنوات قليلة وبإمكانيات طبيعية محدودة على خلاف عديد البلدان النامية في الانطلاق في عملية تنمية حقيقية وطويلة الأمد لإنهاء التبعية للاقتصاد الاستعماري والارتباط بدورته الإنتاجية من خلال تنويع هياكله الإنتاجية .
وقد تميز العقل الاقتصادي في هذه الفترة بالاستقلالية والثراء والتنوع .كما كانت له الجرأة والقدرة على القيام بالإصلاحات الكبرى وفتح آفاق كبيرة لاقتصادنا ولمشروع التنمية في بلادنا .كما يمكن أن نضيف أن العقل الاقتصادي ساهم في بناء خصوصية تجربتنا السياسية والعقد الاجتماعي من خلال وضع مسألة العدالة الاجتماعية والتظافر والتعاون الاجتماعي كأحد الأسس المهمة في بناء السياسات العمومية في المجال الاقتصادي .
ويمكن أن نشير إلى عامل مهم جعلنا نعتبر هذه المرحلة فترة ذهبية للعقل الاقتصادي في بلادنا وهو وجوده الحدود الأولى للمعرفة في مجال التنمية .ففي الستينات كما في السبعينات كان التفكير الاقتصادي في بلادنا سباقا ومتبوئا للمراكز الأولى ومنفتحا على أهم التصورات الفكرية في مجال التنمية مما جعل اختياراتنا التنموية تقدمة على أغلب البلدان الأخرى .
وفي تقييم نتائج وعمل العقل الاقتصادي لابد من التوقف عند ثلاث مسائل أساسية : المؤسسات ،القدرة على الاستشراف والقدرة على تصور الرؤى وبناء السياسات .
• المؤسسات:
تكمن ن أهمية العقل الاقتصادي في قدرته على بناء المؤسسات القادرة الضرورية لبناء السياسات العمومية في مجال التنمية ونجاعتها في انجاز القرارات والاختيارات الكبرى .
ولعل من أهم نتائج العقل الاقتصادي في بلادنا خلال فترته الذهبية نجاحه في بناء أهم المؤسسات الاقتصادية في بلادنا .
ولعل أهم تجربة في هذا المجال هي نجاحنا في بناء البنك المركزي التونسي الذي سيكون المسؤول الأول على أحد ركائز الاستقلال وهو القيادة الوطنية على السياسة النقدية .وقد نجح مجموعة من الشباب العائد توا من فرنسا والملتف حول المرحوم الهادي نويرة ومن بينهم المرحوم الشاذلي العياري والسيد منصور معلى في بناء البنك المركزي رغم الضغوطات التي سلطتها السلطات الاستعمارية والتي ذهبت إلى حد سحب أموالها من البنوك التونسية مما تسبب في أولى الأزمات المالية في بلادنا سنة 1958.لكن ورغم هذه الضغوطات نجح العقل الاقتصادي في أولى مهامه الإستراتيجية وهي بناء البنك المركزي والذي سيصبح مع الزمن أحد رموز السيادة الوطنية لبلادنا .
وإلى جانب البنك المركزي نجح العقل الاقتصادي في بناء المؤسسات الاقتصادية للدولة الوطنية مثل وزارات المالية والتخطيط والتجارة والصناعة إلى جانب عديد المعاهد المختصة مثل معهد الإحصاء .
• القدرة على الاستشراف:
إلى جانب بناء المؤسسات تكمن قوة العقل الاقتصادي في بلادنا كذلك في بنائها لمؤسسات استشرافية لاستقراء المستقبل والأهم أن هذه القراءة واستشراف المستقبل لم تكن من قبيل الترف الفكري بل كانت أداة مهمة لضبط السياسات العمومية .
ويمكن أن نشير في هذا المجال إلى أهم أدوات هذا الاستشراف وهي الآفاق العشرية (les perspectives décennales) والمخططات الخماسية للتنمية .
• بناء الرؤى والسياسات:
تكمن أهمية وفاعلية العقل الاقتصادي في بناء المؤسسات والنظرة الاستشرافية لوضعها في خدمة التصورات الكبرى للتنمية والسياسات العمومية .
وقد نجحت بلادنا في بناء نمطي تنمية كانا في أولى اهتمامات الفكر التنموي العالمي .أما النمط الأول للتنمية فهو المثال التعاضدي والذي ارتكز على تعايش القطاعات الثلاث : العمومي والخاص والتعاضدي في بداية الستينات .
وقد أكد لي المرحوم أحمد بن صالح في نقاشات مطولة لي معه حول الاقتصاد ومسائل فكرية وثقافية أخرى سعة معرفة الرجل ،أن إتباع هذا النمط الجديد للتنمية كان نتيجة للنقاشات الداخلية والتي دارت في رحاب الاتحاد العام التونسي للشغل لإعداد البرنامج الاقتصادي لسنة 1955.كما ساهمت النقاشات التي قادها السيد أحمد بن صالح وعديد مسؤولي الدولة آنذاك مع الأحزاب الاشتراكية الديمقراطية في بلدان أوروبا الشمالية وبصفة خاصة السويد في نحت أبرز معالم النمط التنموي للستينات إلا أن أزمة 1969 عصفت بهذه التجربة لتفتح المجال لتجربة جديدة ولبناء نمط تنموي جديد جعل من التوازن بين السوق الداخلية والسوق الخارجية والقطاع الخاص والقطاع العام ركائزه الأساسية .ولعل من المهم التأكيد أن بلادنا كانت من أولى البلدان التي تبنت هذا النمط للتنمية إلى جانب كوريا الجنوبية .
وهذا السبق يؤكد في رأيي الثراء والقدرة القوية للعقل الاقتصادي في بلادنا على قراءة التحولات الكبرى في الاقتصاد الدولي وضبط السياسات الضرورية للتفاعل معها .وفي هذا الإطار أتى قانون أفريل 1972 والذي يبقى إلى الآن أحد أهم انجازات العقل الاقتصادي في بلادنا إلا أن هذه الفترة الذهبية ستنتهي في منتصف الثمانينات ليشهد لعقل الاقتصادي في بلادنا تراجعا كبيرا مع أزمة 1984 والانخراط في الاتجاهات الفكرية العالمية الأكثر محافظة وتقليدية .
• فترة التراجع والانحسار للعقل الاقتصادي في بلادنا
انطلقت هذه الفترة الجديدة مع منتصف الثمانينات وبصفة خاصة مع الأزمة الاقتصادية الخانقة التي عاشتها بلادنا في تلك الفترة والتي ستقود إلى تطبيق برنامج التعديل الهيكلي ونقطة انطلاق لعلاقة سيضعف فيها التوازن مع المؤسسات الدولية وبصفة خاصة صندوق النقد الدولي .وسنخرط بلادنا في نموذج (pradigme) والمنظومة الفكرية السائدة في الفكر الاقتصادي والتي ستجعل من الاستقرار المالي الهاجس الرئيسي للسياسات العمومية .
ويمكن أن نلاحظ هذا التراجع والتقهقر في المستويات الثلاثة التالية:
1 - المؤسسات:
لم تعرف بلادنا بروز مؤسسات جديدة قادرة على فتح أفاق جديدة للتنمية في بلادنا .وفي تقديري فإن المؤسسات الوحيدة التي برزت في هذه الفترة هي المعهد التونسي للدراسات الإستراتيجية التابع لرئاسة الجمهورية والذي وقع إنشاؤه سنة 1993.
ورغم أهمية هذه المؤسسة والقيمة العلمية الكبيرة للدراسات التي تم انجازها بمعية أحسن الكفاءات في بلادنا فإنه الا انه بعيدا عن مجال صياغة السياسات العمومية وظل تأثيره فيها محدودا .
2 - الطاقة الاستشرافية:
تراجعت قدرتنا في هذا المجال ليقع التخلي عن الأفاق العشرية .ولئن حافظ المخطط الخماسي على وجوده فإن تأثيره شهد انحسارا كبيرا .ولم تكن بلادنا قادرة على إدخال أدوات،استشرافية جديدة كالتخطيط على فترة طويلة لـ15 أو عشرين سنة كما قامت بذلك عديد البلدان النامية .
3 - الرؤى والسياسات<
كما عرفت بلادنا في هذا المجال تراجعا كبيرا في قدرتها على ضبط الرؤى الجديدة ليصبح الهاجس الأساسي إدارة الموروث .و لا يمكن أن نتغافل طبعا أو ننسى الاستثمارات الكبرى في مجال البنية التحتية .كما يجب الإشارة إلى برنامج تأهيل المؤسسات الصناعية في 1995 والذي تم تطبيقه، اثر ابرام اتفاق التجارة الحرة مع الشريك الأوروبي إلا أننا لم نكن قادرين على صيغة رؤيا تنموية جديدة تفتح بلادنا على التحولات الاقتصادية العالمية الكبرى ليتواصل تآكل نمط التنمية الذي وضعناه في بداية السبعينات .
وعندما بدأنا في النقاش حول نمط التنمية الجديد وضرورة الدخول في اقتصاد المعرفة والتكنولوجيا الحديثة في بداية الألفية كانت الأزمة السياسية قد بلغت أوجها ولم تكن الدولة قادرة على ضبط مسار جديدة لبلادنا .
هكذا عرف العقل الاقتصادي في بلادنا تراجعا وتقهقرا كبيرين في السنوات الأخيرة مما يفسر جزءا من الأزمة الحالية وعدم قدرتنا على صياغة السياسات الضرورية للخروج منها وفتح آفاق جديدة لمسارنا الإصلاحي والاقتصادي .
ولعل السؤال الذي يطرح نفسه اليوم يتعلق بأسباب هذا التراجع والأزمة العميقة التي يعيشها العقل الاقتصادي في بلادنا .
• في أسباب عجز العقل الاقتصادي:
لفهم أسباب نجاح العقل الاقتصادي وثرائه في الفترة الأولى ومرحلة الدولة الوطنية ثم تراجعه وتقهقره في المرحلة الثانية نريد الإشارة إلى أربعة عوامل أساسية لعبت دورا أساسيا في هذا المسار .
- العنصر الأول هو الإيمان بضرورة بناء عقل اقتصادي مستقل:
لقد كانت هذه المسألة هاجسا أساسيا في الفترة الأولى وعملت الدولة على دعم هذا التوجه وضرورة بناء منظومة فكرية مستقلة تأخذ بعين الاعتبار خصوصية اقتصادنا واختلافه عن الاقتصاديات الأخرى .وتجسد هذا الهاجس عند الدولة في بناء مراكز البحث والتفكير ومؤسسات الاستشراف .إلا أن هذا الهاجس وإن كان قويا وأصبح سياسة الدولة في الفترة الا انه شهد الكثير من التراجع في الفترة حيث أخذ نقل السياسات واتباعات سياسات وتوصيات المؤسسات الدولية حيزا أكبر .
- العنصر الثاني يخص الانفتاح على الأفكار العالمية:
رغم أهمية مسألة استقلالية التفكير الاقتصادي الوطني فانه وقع التشجيع على الانفتاح والاستفادة من التصورات الكبرى التي يعرفها الفكر العالمي في هذا المجال .وقد قدمنا دليلين مهمين في هذا المجال وهو تجربة التعاضد في الستينات والتي كانت في جزء منها نتيجة تأثير تجربة الاشتراكية الديمقراطية في اوروبا الشمالية .أما التجربة الثانية فهي التوجه نحو تشجيع التصدير في بداية السبعينات والتي كانت نتيجة ظهور قراءات جديدة في فكر التنمية شجعت على هذا التمشي.
إذن رغم التأكيد على أهمية بناء عقل اقتصادي مستقل رأت بلادنا ونخبنا في الانفتاح على الآخر والتوجهات الكبرى للفكر العالمي مصدر إثراء لتجربتنا إلا أن هذا التمشي شهد تراجعا كبيرا في الفترة الثانية حيث شهدنا صعود هيمنة المنظومات الفكرية السائدة على المستوى العالمي على حساب التفكير ليختل التوازن الذي نجحنا في بنائه في الفترة الأولى .
- العنصر الثالث يهم العلاقة بين البحث والفعل:
ما نريد الإشارة إليه في هذا المجال هو العلاقة الوطيدة بين الجامعة التونسية ومراكز البحث من جهة ومؤسسات الدولة والإدارة .فقد تواجد أساتذة جامعيون وخبراء كبار على مستوى المؤسسات الاقتصادية للدولة .وقد استفادت الإدارة كثيرا من هذه الطاقات والخبرات الفكرية وساهمت في بناء تميزها .إلا ان ما يمكن أن نلاحظه خلال الفترة الحالية هو تراجع العلاقة لتصبح شبه قطيعة بين مؤسسات الدولة والفضاء الجامعي ومراكز البحث .
- العنصر الرابع هو الجرأة والشجاعة:
لا يقتصر العقل الاقتصادي على الأفكار بل يهم كذلك القدرة على تطبيق السياسات وانجاز الأفكار وتحويلها إلى واقع ملموس . ولئن كانت هذه الجرأة موجودة في الفترة الأولى فإن التردد و الخوف من النتائج السلبية أصبحا السمة البارزة للفترة الحالية .وهذا التردد وراء عدم قدرتنا على إنجاز الإصلاحات الكبرى.
هنا أود الإشارة إلى قصة للتأكيد على الاختلاف الكبير بين الفترتين .حكى لي المرحوم الشاذلي العياري انه كان هنالك تخوف كبير في إحدى المجالس الوزارية من تبعات أخذ القرارات الاقتصادية .وقرر رئيس الوزراء حينها المرحوم الهادي نويرة التوجه إلى الرئيس بورقيبة لأخذ رايه في الموضوع واصطحب معه حينها أصحاب الاختصاص من الوزراء .وعندما طرحوا الموضوع على الرئيس قال لهم بكل وضوح «نطبق القانون ولا نتلكأ في ذلك ولما تبرز آثاره السلبية نقوم بإصلاحه « وما من شك أن هذه الرؤية شجعت المسؤولين حينها على أخذ المبادرة وعدم التراخي في تحقيق القرارات .
تعيش بلادنا اليوم أزمة خانقة .ويشكل تراجع العقل الاقتصادي وأزمته أحد العناصر التي ساهمت في تأبيد هذا الوضع وفي عجزنا عن الخروج من هذه الأزمات .وفي هذا الإطار لابد للاقتصاديين والخبراء ومؤسسات الدولة من استعادة بريق العقل الاقتصادي الذي سيساعدنا في الخروج من هذه الأزمات وفتح المجال لتجربة اقتصادية جديدة في بلادنا .
قهوة الأحد: في أسباب فقر العقل الاقتصادي في بلادنا
- بقلم حكيم بن حمودة
- 13:10 20/06/2022
- 1106 عدد المشاهدات
تعيش بلادنا أزمة اقتصادية خانقة منذ سنوات زادتها جائحة الكورونا والحرب في أوكرانيا حدة .وعجزت أغلب حكوماتنا منذ سنوات عن ضبط السياسات