منبــــر: الديمقراطية وأبعــادهــــا

في مقالاته التحليلية «العدالة الديمقراطية: بُعدان « La justice démocratique :deux) (dimensionsيعتقد ايان شابيرو ، استاذ العلوم السياسية في جامعة يال

« ان العلاقة بين الديمقراطية والعدالة الاجتماعية اوثق مما تعتقده «المعارضة التقليدية»، وهذا لا يعني ان احداهما يمكن ان تعوّض الاخرى ، بل يعني ان اي تأويل سطحي يغلّب احداهما أو يغيّبها تماما لا يمكن ان يكون اخلاقيا (او اجتماعيا) مقبولا .» بل وقد يؤدي هكذا تأويل الى خسارتهما معا.
وفي العقود الاخيرة ، رسخت قناعة لدى عديد الخبراء الاقتصاديين والسياسيين بان ازمة الديمقراطية الان هي في غياب بعدها الاجتماعي ، اذ على عكس ما يراه اغلب الليبراليين الذين يعتبرون ان الحريات الفردية هي المبدأ الوحيد المقدّس ، فان الدولة في اغلب المجتمعات الديمقراطية تحمل هذه المفارقة: فهي، في نفس الان، وسيلة مؤسساتية لمواجهة الاستبداد وحماية الحرية ولكنها بتغافلها عن الحيف الاجتماعي المتصاعد تتحوّل الى اداة لتجيير الواقع وتأبيد التفاوت ، مما يضرّ بحقوق المواطنين ويبخس قيمة الديمقراطية السياسية ويضعفها، فلا العدالة الاجتماعية يمكنها ان تعوّض التوق الى الحرية ولا الديمقراطية السياسية المفرغة من العدالة قادرة لوحدها ان تحفظ كرامة الانسان...

ويتفق الحسين الزاوي ، الكاتب واستاذ الفلسفة بجامعة وهران مع ضرورة عدم تجزئة الحقوق، حيث يعتبر ان الديمقراطيات الغربية اختزلت الاعلان العالمي لحقوق الانسان في مبدأ الحرية السياسية ، ولكن مع اعترافه بأهمية هذا المبدأ الا انه يعتبره منقوصا ، اذ هو يفتقد الى رؤية «تسمح بانتقاله من خانة المبادئ الى دائرة الفعل في سياق نسق مجتمعي لا يضحي بالحقوق من اجل كسب الرهانات الاقتصادية» والحقيقة ان استمرار الفصل بين العدالة الاجتماعية والحقوق السياسية جعلت دولا عريقة في الديمقراطية غير قادرة على توفير المتطلبات الاساسية لمواطنيها كما تتراجع باطراد حصّة تغطيتها الاجتماعية وحتى دورها السياسي، مما جعلها عرضة لهزات واضطرابات...

هذه الازمات الاجتماعية ستحتدّ في السنوات القادمة مع تزايد التفاوت الاجتماعي وتصاعد نسب الفقر وتقليص الدور الاجتماعي للدولة ومع ان الغضب الجماهيري في الدول الديمقراطية لا يخرج (الى حد الان على الاقل ) عن قنواته المؤسساتية ، لكن يبدو وكأن العقد الاجتماعي التقليدي الذي تأسس اثر الحرب العالمية الثانية قد اخذ في التلاشي ومعه كل القيم والدروس التي استوعبتها الانسانية بعد تقديم عشرات الملايين من الشهداء فصعدت من جديد التيارات الشعبوية والقومية المتطرفة ، وعاد معها خطاب الكراهية العنيف وازدراؤها لحقوق الانسان وبدأت شعبيتها تتوسع بمقدار استخفافها بمبادئ الديمقراطية ومؤسساتها.

والمؤسف انه لا تظهر- في المستقبل القريب على الاقل- بداية حلول واقعية للتفاوت الاجتماعي والاقتصادي ، وطنيا ودوليا وفي كتابه «رأس المال في القرن الواحد والعشرين» الذي حقق مبيعات خيالية في الدول الغربية خاصة ، درس الفيلسوف وعالم الاقتصاد توماس بيكتي تركيز الثروة خلال ال250سنة الماضية، محللا تراكم المداخيل والممتلكات ، وانتهى الى خلاصة يمكن اختزالها (بشئ من التعسف) في ظاهرتين: الاولى ان رأس المال سيزداد باستمرار ليتجاوز معدلات النمو ، بسبب تراكم الاقتصاد الريعي و بطء خلق الثروة وفتور النشاط الانتاجي، مما يضعف من مداخيل الدولة التي ستضطر الى مزيد التخلي عن دورها الاجتماعي في قطاعات مثل التعليم والصحة ، والثانية ان تفاوت الثروة وتركيزها سيزداد ولا يمكن الحد منه الا عبر اقرار ضريبة تصاعدية على الثروات العالمية.

ومنطقة الشرق الاوسط؟
هي منطقة التناقضات بامتياز ، وهي حسب توماس بيكتي «المنطقة الاكثر معاناة بسبب التركز الذي لا يصدق في الثروات والموارد» ولكنها في ذات الوقت من اكثر المناطق فقرا وبؤسا ، والتفاوت ليس فقط بسبب الفوارق بين الدول ذات الريع الطاقي الضخم والاخرى ذات الموارد الطبيعية المحدودة ، بل كذلك داخل البلد الواحد ، ذلك ان الانظمة التي كانت في يوم ما ترشي مواطنيها بتوفير الرعاية مقابل الصمت على الاستبداد ، اصبحت مع التغييرات الاقتصادية العالمية وانعكاسات العولمة وغياب الحوكمة الرشيدة غير قادرة على توفير الادنى لمواطنيها ، مثل التعليم والصحة والحماية الاجتماعية.
في حوار مع العربي الجديد يرجع الى حوالي 5 سنوات مضت ، أعطى بيكتي مثالا عن التفاوت في منطقة الشرق الاوسط واضمحلال دور الدولة الاجتماعي : ميزانية التعليم في مصر ،البلد الذي يتجاوز عدد سكانه 100 مليون ساكن هي اقل بمائة مرة من ميزانية قطر والامارات رغم ان عدد سكان البلدين لا يتجاوز المليون ساكن.

تأزيم الوضع في تونس:
لم تكن الثورة التونسية الا صرخة غضب من المناطق الداخلية والاطراف المحرومة والشباب المهمش من اجل تجاوز الحيف الاجتماعي وخلق فرص الشغل وانتاج الثروة ، وحتى الشعارات السياسية لم تكن الا نتاجا لقناعة مفادها ان النظام آنذاك لا يمكنه توحيد البلاد اجتماعيا بحكم استبداده وغياب الشفافية في المعاملات المالية لديه والمحسوبية التي سادت في محيط الاعمال، لكن النخبة السياسية التي حكمت خلال العشرية الماضية لم تستفد من الانفتاح السياسي ولم تكن تحمل تلك الهموم التي عبرت عنها شعارات الثورة لعدة اعتبارات ، منها تجربتها السياسية المشوهة والمحدودة وانقساماتها المفزعة وهروبها من مواجهة المشاكل الفعلية وحصر اهتماماتها في محاولة ديمومة حكمها... وهي اليوم تدفع فاتورة حساباتها الخاطئة، لكن الشعب ،الذي اعطاها الثقة في وقت ما، هو ايضا يدفع الثمن :وضع اقتصادي متأزم ، نسب فقر ترتفع لتلتهم الطبقة الوسطى، وواقع سياسي يزداد انغلاقا مما يجعل امكانية الحوار المطلوب اليوم بإلحاح لإنقاذ ما يمكن انقاذه بعيد المنال ، امر يجعل التونسي العادي مستسلما لقدره ، فلا تسمع في اغلب الاوقات الا : «ربي يقدر الخير» هذا ما يردده اغلب التونسيين، التونسيون الذين تحدّوا القدر حين كانوا يرددون : «اذا الشعب اراد الحياة ، فلابد ان يستجيب القدر» .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115