وهو أيضا الضامن لتواصلهما. وقد يحدث أن يكون العقد الاجتماعي رخوا لأسباب عديدة منها عدم القدرة على تجديد نفسه أو أن أحد الأطراف المشكلة له لا تستجيب لمتطلبات المرحلة لأسباب تخصها. وقد عرفت تونس عقدا اجتماعيا تواصل إلى حدود 2011. وهو عقد كانت فيه المنظمات الوطنية مثل الاتحاد العام التونسي للشغل واتحاد الصناعة والتجارة واتحاد المرأة واتحاد الفلاحين ومختلف أطياف النسيج الجمعياتي على سبيل الذكر حاضرة كل من موقعه للمشاركة في إدارة هذا العقد الاجتماعي الذي يضبط علاقة الدولة بالمجتمع ويضبط أيضا علاقات الناس فيما بينهم. وما هو مثير أننا مازلنا نشتغل بمنطق عقد اجتماعي ليست له القدرة على تجديد نفسه ولم يعد قادرا على قراءة التحولات السوسيولوجية المختلفة. مازلنا نشتغل بفكرة العقد الاجتماعي ربّما خوفا، ربّما نقصا في الجرأة ولكننا قد نحتاج إلى عقد ديموقراطي بأفق اجتماعي لا يكون فيه العقد الانتخابي إلا مكوّنا من بين مكونات أخرى على قدر كبير من الأهمية.
المثير في المسألة أن مكونات العقد الاجتماعي طيلة أكثر من ستّ عقود هي في الآن نفسه منشغلة بما هو اجتماعي مثلما هي منشغلة بما هو سياسي وبدرجات متفاوتة. الأمر لا يزال مطروحا إلى الآن. ضعف العقد الاجتماعي وضعفت معه مكوناته لأن هذا العقد لم يتلاءم بما هو جيد مع سياق انتقال ديموقراطي بآفاق جديدة وبمنطق جديد، وما هو طارئ هو أننا أردنا أن نعطي للعقد الاجتماعي جرعة ديموقراطية. فلا العقد الاجتماعي طور بالشكل المطلوب من مضامينه ولا مكوناته مستعدة لتغيير أسلوب تفطيرها وأسلوب ممارساتها. لقد أدخلت الديموقراطية شروطا جديدة منها ما يتصل باحترام الاختلاف وحسن إدارته وأدخلت كذلك فاعلين لم يكونوا في الصورة قبل 2011 ومن هؤلاء مؤسسات المجتمع المدني بتنويعاتها العديدة ومؤسسات الاعلام. وأتاح الانتقال الديموقراطي أيضا لهؤلاء الفاعلين إمكانية أن يشاركوا في إدارة هذا العقد الاجتماعي كل من موقعه ومن مصالحه. تغير المشهد وأصبح صعب الفهم وصعب المراس ولم يقدر العقد الاجتماعي أن يواكب الصراعات المحتدّة اجتماعيا وسياسيا. وجدنا أنفسنا أمام وضعية خلنا معها أننا نتحرك بعقد ديموقراطي، إلا أننا في الواقع نتحرك بعقد سياسي جديد ولم يستطع العقد الديموقراطي أن يفرض نفسه على الجميع. الذهنية الديموقراطية والتصورات والممارسات و كذلك المؤسسات والتشريعات المناسبة له لا تزال في بداياتها. من الصعب تغيير ذهنية غير ديموقراطية في حيّز زمني ضيق. و كانت النتيجة أننا في حالة يمكن وصفها بأنها ديموقراطية بلا ديمقراطيين فعليين، او انها ديمقراطية بفاعلين سياسيين.
كانت الدولة هي التي تقود العقد الاجتماعي وتطوعه لفائدة صناعة التوازن وكانت عبر الحزب والإدارة و الأمن قادرة إلى حدّ ما على توزيع التوازنات والإبقاء عليها وتمتينها. وقد يحدث أن يضعف هذا العقد ولكن كانت للدولة القدرة الكافية على إنعاشه إما بقدرات الزعامة أو بقدرات المؤسسات أو بالإثنين معا. ولكن ما تشهده البلاد مؤخرا من احتجاجات ومن عدم وضوح الأفق السياسي يكشف لنا عن ضعف كبير في الوسائط التي ندير بها الأزمات. وهذه الوسائط هي المكون للعقد الاجتماعي الرخو، فلا الأحزاب السياسية قادرة على القيام بهذا الدور ولا المنظمات الوطنية ولا مؤسسات المجتمع المدني. هناك إذا فراغ كبير في إدارة الآزمة، والآزمة بعض من حلولها موجود عند الشبكات الموازية، شبكات الهجرة الموازية وشبكات المخدرات وشبكات الدعارة وشبكات الجريمة المنظمة. وجد المهمشون والمنسيون من العقد الاجتماعي الرخو في هذه الشبكات إجابات لم يعد العقد الاجتماعي قادرا على تقديمها لمن يطلبها.
نحن إزاء أزمة وسائط، نحن إزاء أزمة مجتمع وأزمة مجتمع مدني لم يستطع في السنوات الأخيرة أن يندمج بقوة في تفاصيل المجتمع ولم يستطع أن يشكل ثقافة بديلة إلى درجة يمكن التساؤل معها هل لنا مجتمع مدني أو لنا فقط نسيج جمعياتي والفرق بين المسألتين على قدر كبير من الأهمية. ولهذا من المنطقي أن نضع ما نسميه المجتمع المدني في قلب العقد الاجتماعي. لدينا مجتمع مدني يشتغل تحت الطلب، يضع مسافة بينه وبين مكونات المجتمع ويقتصر فعله على تسجيل قائمات بالأنشطة لا غير يحاسب بها مموليه دون وجود أثر دائم. كان العقد الاجتماعي في حاجة أكيدة لمجتمع مدني يغير نحو الأفضل ويضغط من أجل الأجمل ويراقب من أجل المساءلة الاجتماعية. ولكن العقد الاجتماعي الرخو الذي يراوح مكانه منذ عقود لم يستطع أن يقبل بهذا الجسم الجديد ولم يجعل منه فاعلا قويا لإدارة الشأن العام والمشاركة في البناء وفي إدارة الأزمات.
هناك من يطرح فكرة ثورة ثانية هي ثورة المجتمع المدني، أي أن ننتقل من النسيج الجمعياتي إلى مجتمع مدني فعلي يتولى التغيير الفعلي حين فشلت الأحزاب عموما في ذلك. تجربة واحة جمنة كثيفة بالدروس المستقاة وهي دروس في الحوكمة المحلية أساسا حين يأخذ المجتمع المدني بزمام التنمية ويكون عرضة للمساءلة الدائمة. تجربة المعهد العربي لحقوق الانسان هي الأخرى تجربة فريدة في كيفية اندماج المجتمع المدني في النسيج المجتمعي لحيّ شعبي. وتصبح حقوق الانسان في معانيها ومستوياتها المختلفة جزءا من ذهنية المهمشين ومرجعا لسلوكهم. ولهذا كان أثر هذا الاندماج قويا من حيث تراجع نسب الانقطاع المدرسي وتراجع نسب الجريمة وتكونت حول التجربة المدنية هذه رؤية مغايرة لسكان الحي لشروط وجودهم.
ما نحتاجه أكثر هو العمل على بناء العقد الديموقراطي بأفق اجتماعي، وهذا يعني التعود والاقتناع والقبول بقواعد اللعبة الديموقراطية وليس فقط العمل بما يتيحه العقد الانتخابي والذي تصورناه طيلة العشرية الأخيرة على أنه هو العقد الديموقراطي فأخطأنا البوصلة والطريق. البناء الديموقراطي في مستوياته المختلفة، بذهنية ديموقراطية فعلية وليس بتعاقدات انتخابية قصيرة المدى وضعيفة التناسق ومختزلة لكل المشهد. ولأن الديموقراطية أصعب وأضنى من الاستبداد، يتحتّم علينا أن نضع في الاعتبار ما يمكن تسميته بالتأني الديموقراطي.
هل نحتاج إلى عقد ديمقراطي بأفق اجتماعي؟
- بقلم محمد جويلي
- 11:46 10/05/2022
- 1380 عدد المشاهدات
العقد الاجتماعي هو الذي يخرج مجتمعا من أزمته ويمنحها القدرة على الصمود . العقد الاجتماعي هو تلك العلاقة المتينة بين المجتمع والدولة