والى جانب مسؤولياته البحثية والتدريس في الجامعات الفرنسية وعديد الجامعات في أوروبا وامريكا اللاتينية وافريقيا فقد تحمل مسؤولية الاشراف على إحدى أهم المجلات الجامعية في العالم والمختصة في العلاقات الدولية على مدى اربعة عقود وهي مجلة «Recherches internationales» أو «بحوث دولية» .بالرغم من الازمات الكبرى التي عاشتها ومرت بها أغلب المجالات الفكرية واهمها مثل le débat أو الحوار في فرنسا والتي انتهت بتوقفها عن الصدور وغيابها فقد حافظت هذه المجلة على نسق صدورها وخاصة على القيمة العلمية والتحليلية لمقالاتها وبقاء هذه المجلة ومواصلتها الصدور بالرغم من الصعوبات هو نتيجة لمنحاها النقدي في قراءة تطورات العالم ثم في قدرتها على اعداد ملفات تجمع مقالات لاهم الخبراء حول اهم المواضيع الحارقة في مجال العلاقات الدولية.
وقد بعث لي الصديق ميشال روقالكسي منذ ايام العدد الأخير من مجلة «بحوث دولية» والذي جاء كعادته ثريا بالمقالات والتحاليل حول الوضع الدولي وتطورات السياسة الدولية.ومن أهم المقالات في هذه المجلة هي الافتتاحية التي يخصصها ميشال روقالسكي لقراءة الوضع الدولي .وقد جاءت هذه الافتتاحية بعنوان De Kaboul à Kiev: le XXIe siècle a vraiment commencé أو من كابول الى كياف: البداية الفعلية للقرن الواحد والعشرين».
وقد اثارت هذه الافتتاحية والقراءة التي تحملها للوضع الدولي اهتمامي.وقام الكاتب بنقد عديد التحاليل التي اعتبرت ان بداية القرن الواحد والعشرين كانت مع الهجومات الارهابية في الولايات المتحدة الامريكية في 11 سبتمبر 2001 ليصبح منذ ذلك الوقت محاربة الارهاب والانظمة القوية والاستبدادية والتي تنتج التطرف والارهاب الأهداف الاستراتيحية الكبرى للقوى العظمى.
انطلق القرن الواحد والعشرون مع هذا المشروع الذي دافع عنه الرئيس الامريكي بوش الابن والذي نظر له عتاة صقور المحافظين الجدد والذين دخلوا الى أعلى مواقع السلطة في البيت الأبيض مع نائب الرئيس ديك تشاني انذاك.واعتبر المحافظون الجدد انذاك أن بناء السلم العالمية ونهاية الحروب والتوترات والعنف يمر عبر تكوين تحالف عالمي لمحاربة الارهاب والانظمة الاستبدادية ونشر الديمقراطية في بلدان العالم وخاصة بلدان العالم الثالث.وقد عمل المحافظون الجدد والادارة الامريكية على تطبيق هذه الرؤيا وهذا التصور كلفهم ذاك ما كلفهم الى درجة التدخل العسكري المباشر وقد عرفت هذه الرؤية بنظرية «régime change» أو تغيير الانظمة». وهذا ما قامت به الادارة الامريكية عند تدخلها في العراق سنة 2003 واسقاط نظام صدام حسين.كما قامت بنفس الشيء في افغانستان لاسقاط نظام طالبان ومحاولة بناء نظام ديمقراطي في مكانه على الطريقة الغربية.
إلا أن هذه الرؤية ستثبت فشلها ونهايتها وسيكون الانسحاب المهين للقوات الامريكية من افغانستان بعد سنوات الدخول في مرحلة جديدة للسياسة الدولية قوامها العنف والقوة والفوضى.وسيكون الغزو الروسي لاوكرانيا والحرب الرهيبة التي تخوضها هناك القوات الروسية والخسائر البشرية والمادية والاقتصادية التي ستتكبدها اوكرانيا نقطة انطلاق لهذا العالم الجديد المخيف والمرعب.والسؤال الذي يطرح نفسه اليوم والذي طرحه ميشال روقالكسي والعديد من الاخصائيين في العلاقات الدولية مثل الوزير اللبناني السابق غسان سلامة وبرتران بادي (Bertrand Badie) واوليفي روا (Olivier Roy) هل ستكون كياف أو العنف والرهبة والعنجهية التي تشهدها الحرب على اوكرانيا هي سمات القرن الواحد والعشرين ؟
وان تبدو الإجابة على هذا السؤال سابقة لاوانها فان التفكير في هذه التطورات أساسي لفهم مستقبل العالم والمخاوف الكبرى التي يطرحها على مستقبل السلم العالمية.
• العنف والتفكك وفسيفساء العالم
ان قراءة أهم التطورات الدولية في الاسابيع الأخيرة تشير إلى بروز عديد المؤشرات التي تنبئ بعالم قادم مليئ بالمخاطر والخوف وعدم الاستقرار.
يهم المؤشر الأول صعود مخزون العنف والجنوح الى الاستعمال المفرط للقوة في أغلب مناطق العالم.وكانت انطلاق الحرب في اوكرانيا والعنف الشديد الذي صاحبها مؤشرا على انفلات مخزون القوة من عقاله.وما اثار الرهبة والخوف من هذه الحرب كونها أول اعتداء من دولة على دولة أخرى منذ الحرب العالمية الثانية اذا اعتبرنا أن الحروب التي صاحبت تفكك دولة يوغسلافيا هي حروب داخلية.فلاول مرة منذ هجوم ألمانيا على بولونيا والتي ستكون نقطة انطلاق الحرب العالمية الثانية ستتجه روسيا الى قوة السلاح والعنف كحل خلافات مع جارتها اوكرانيا.
وانطلاق الحرب فتح المجال للبلدان الاوروبية وللولايات المتحدة الامريكية بالقيام بامدادات عسكرية لا مثيل لها في التاريخ لدعم اوكرانيا واعطاء الادوات الأساسية لجيشها للصمود وكسر شوكة الجيش الاحمر.
وستجعل هذه الامدادات والترسانة العسكرية الكبيرة التي تم حشدها الحرب مع اوكرانيا نقطة انطلاق لوضع كبير من عدم الاستقرار والخوف.
إلى جانب تنامي العنف لابد من الإشارة إلى تراجع قوة وهيمنة الدول الكبرى.فاوروبا ستخرج بخسارة كبيرة من هذه الحرب والتي اثبتت تبعيتها وارتهانها إلى درجة كبيرة بالمواد الاولية والطاقة القادمة من روسيا.ونفس الشيء بالنسبة لروسيا والتي مهما كانت النتائج العسكرية لهاته الحرب فانها ستخرج منهكة بسبب العقوبات الاقتصادية والمالية التي سلطتها عليها الدول الاوروبية والولايات المتحدة الامريكية.
كما أن الولايات المتحدة الامريكية وبعد الانسحاب المذل من افغانستان فانها دخلت مرحلة جديدة مع التراجع الكبير لدورها في العالم وقدرتها على فرض نظام عالمي يحترمه الجميع.
اما في القارة الاسيوية فان الصين التي انهكتها الجائحة وكانت وراء تراجع مستوى النمو الاقتصادي فانها تبدو مهتمة اكثر بمشاكلها الداخلية ومحاولة ايجاد الحلول للركود الاقتصادي.ويبقى الشأن الدولي والمساهمة في قيادة النظام العالمي بعيدا عن اهتماماتها.
كما يمكن ان نضيف الى مؤشرات عدم الاستقرار التي تميز عالم اليوم التفكك والانخرام اللذين يميزان التحالفات الكبرى والمحاور الدولية.فقد فتح تراجع الدول الكبرى هامشا كبيراً من الحرية استغلته عديد الدول المتوسطة والصغرى للتحرر من انتماءاتها وتحالفاتها السابقة.ولعل اهم مثال على ذلك هو التصويت في الامم المتحدة يوم 2 مارس على مشروع قرار ادانة الهجوم الروسي على اوكرانيا.ولئن صوتت 141 دولة مع هذا القرار ولم تصوت ضده الا أربع دول الى جانب روسيا بينما احتفظ البقية أو امتنعوا عن التصويت فان قراءة خارطة هذا التصويت تثبت هذا التفكك والانخرام.ولعل اغلب الدول المحتفظة او المتغيبة عن التصويت هي افريقيا ونذكر منها دولا عرفت بقربها الاستراتيجي من الولايات المتحدة الامريكية مثل المغرب والسينغال والطوقو والكاميرون.كما شكل امتناع الامارات العربية المتحدة مؤشرا على هذا التفكك والانخرام الذي يشهده العالم .
يعيش العالم اليوم مرحلة متقلبة وغير مستقرة تتميز بتصاعد مخزون العنف والقوة وتراجع هيمنة القوى الكبرى وانحلال وتفكك المنظومات الدولية الكبرى.
وتشير هذه المؤشرات الى دخولنا في مرحلة جديدة مخيفة وسيسيطر فيها الإنفجار والرعب على العلاقات الدولية والذي ستكتوي بناره الشعوب والدول الضعيفة.
• هل دخلنا في حرب باردة جديدة ؟
وفي قراءة التطورات الأخيرة يرى بعض المحللين أن العالم بدا يدخل في حرب باردة جديدة كالتي عرفناها اثر الحرب العالمية الثانية وهيمنة شبح الموت الذي عاش العالم على وقعه بين القوتين الأعظم: الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفياتي. ولئن كان هناك تشابه بين الفترتين وخوف من اندلاع حرب عالمية كبرى فإن واقع اليوم لا يشبه البارحة ولا يمكن لنا الحديث عن حرب باردة جديدة لعديد الاسباب. وأولى هذه الاسباب هي غياب رؤية ايديولوجية ينقسم العالم حولها إلى قطبين متصارعين.فالمصالح الوطنية الشعبوية هي التي تهيمن اليوم على مختلف اطراف النزاع.
كما أن الانخراط في المحاور الكبرى لمختلف دول العالم اليوم لا يتم على قاعدة الرؤى الايديولوجية بقدر ما يكون على قاعدة المصالح الوطنية.
• هل دخلنا في عالم متعدد الاقطاب ؟
يطرح بعض المفكرين وخبراء العلاقات الدولية أن نهاية عالم القطب الواحد تحت الهيمنة الامريكية اثر سقوط جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي فتح الباب أمام عصر جديد وهو العالم المتعدد الاقطاب.وقد تدعم هذا العالم الجديد بظهور البلدان الصاعدة مثل الصين والهند وروسيا والبرازيل وافريقيا الجنوبية والارجنتين.واصبحت هذه الدول تلعب دورا كبيرا لا فقط على المستوى الأقتصادي بل كذلك على المستوى السياسي مما دفع البلدان العظمى التقليدية إلى ايجاد مجموعة العشرين لفتح المجال لهذه الدول للمشاركة في إدارة العالم.
إلا أن دور هذه الاقطاب الجديدة شهد بعض التراجع في السنوات الأخيرة وكان لجائحة الكوفيد تاثيرات كبيرة على وزنها المالي والاقتصادي والاجتماعي. وتبدو هذه الاقطاب الجديدة منهكة من الناحية السياسية والاقتصادية مما جعلها تنسحب من ادارة العالم لتركز اهتماماتها على ازماتها ومصاعبها الداخلية.
هل سيكون التفكك والغطرسة قدر القرن الواحد والعشرين ؟
ان قراءة وتحليل المعطيات والمؤشرات الدولية تشير الى انزلاقنا نحو عالم جديد يتميز بالعنف والغطرسة والتفكك والتي قد تكون سمات هذا القرن.
ومن جملة المؤشرات التي تؤكد هذا الانزلاق هو تحرير العنف من كل القيود كما اشار إلى ذلك الاستاذ غسان سلامة ليصبح اللجوء اليه سهلا كما كان الشأن في روسيا عندما قرر بوتين اطلاق هجومه.وتحرير العنف يعود حسب غسان سلامة الى وجوب المحافظين الجدد في 2003 في العراق واسقاط نظام البعث هناك.
وستكون هذه الحرب نقطة انطلاق لاستعمال العنف ورفض الضوابط التي تقننه.
أما المؤشر الثاني لهذا القدر المرعب الذي ينتظرنا فهو عودة السباق نحو التسلح والعودة للتحالفات العسكرية الكبرى.ولعل اهم امثلة في هذا المجال هو اقرار المانيا في الترفيع من ميزانية التسليح.وفي نفس المجال نشير الى طلب السويد وفنلندا الانخراط في الحلف الأطلنطي بعد عقود من الحياد.
وفي جملة المخاطر التي تهدد العالم القادم نشير الى الثورة على الديمقراطية وعودة الانقلابات العسكرية والانظمة الشعبوية.
يعيش العالم مع الحرب ضد اوكرانيا لحظة فارقة قد تفتحنا على الرعب وغول العنف الهمجي.وتكمن مهمة القوى المدنية والاجتماعية والديمقراطية في ايقاف هذا الانزلاق كي يكون السلم والمساواة والعدالة قدر القرن الواحد والعشرين.