قهوة الأحد: هل أن الحل في الحظر والحصار الاقتصادي ؟

عادت بي قرارات الحظر والحصار الاقتصادي التي أقرتها البلدان الأوروبية والولايات المتحدة الأمريكية على روسيا اثر هجومها على أوكرانيا

إلى الجزء الأخير من سنوات الدراسة الجامعية ومرحلة إعداد الدكتوراه في جامعة قرونوبل في فرنسا .

كنت قد أتممت سنوات التكوين الأولى والإجازة في الاقتصاد في كلية الحقوق والعلوم لاقتصادية بالمركب الجامعي في تونس .وكانت سنوات حبلى بالمعرفة والتكوين كذلك بالنضال الطلابي من اجل الديمقراطية والتعدد والحضور الثقافي والفكري والفني مع الكثير من الأصدقاء والصديقات .وقبل الانتهاء من إتمام الإجازة قررت التوجه إلى فرنسا لإتمام شهادة الدراسات المعمقة ومن ثم إعداد شهادة الدكتوراه.وفي فرنسا اخترت التوجه إلى جامعة قرونوبل لسببين أولهما أنها كانت تعتبر احد أهم الجامعات ذات المنهج النقدي في الفكر الاقتصادي.أما السبب الثاني فهو وجود الأستاذ جيرار دي برنيس Gérard de Bernis والذي كان يعتبر وقتها أحد أكبر قامات الفكر الاقتصادي في أوروبا وفي العالم.وقد عرف الأستاذ دي برنيس بكتاباته النقدية والتي أصبحت مرجعا مهما لكل طلبة الاقتصاد في مجالين مهمين وهما اقتصاد التنمية والاقتصاد الدولي.

إلى جانب القيمة العلمية والمعرفية للأستاذ دي برنيس علاقة خاصة بتونس.فاثر حصوله على شهادة التبريز في الاقتصاد (agrégation) قدم إلى تونس ليدرس في نواة الجامعة التونسية في بداية الخمسينات .وقد ذكر لي أن السواد الأعظم من الطلبة في تلك الأيام كانوا من أبناء المعمرين الفرنسيين،وكان الطلبة التونسيون يعدون على أصابع اليد الواحدة وكانوا لا يختلطون بالطلبة ذوي الجذور الفرنسية.وكان المرحوم الشاذلي العياري من بين هؤلاء الطلبة التونسيين .

كان الأستاذ دي برنيس إلى جانب المجال المعرفي والعلمي مناضلا سياسيا وقريبا في ذلك الوقت من الحركات الكاثوليكية الاجتماعية واليسارية .وكان مناصرا للقضايا الوطنية وحركات التحرر الوطني في المستعمرات الفرنسية ومن ضمنها تونس والجزائر .وقد طلب من طلبته تعريفه بقادة الحركة الوطنية في بلادنا فكان أن قدموه للمرحوم احمد بن صالح الذي كان وقتها الأمين للاتحاد العام التونسي للشغل اثر استشهاد فرحات حشاد .ومنذ ذلك الوقت ربطت المرحومين دي برنيس وأحمد بن صالح علاقة صداقة ونضال كبيرة ترتكز على مبادئ التحرر الوطني والانعتاق الاجتماعي.وطلب أحمد بن صالح في تلك الفترة من الأستاذ دي برنيس الإشراف على مجموعة تفكير وعمل كونها الاتحاد لإعداد برنامج اقتصادي واجتماعي افرز ما يعرف ببرنامج 1955 للاتحاد والذي شكل رؤية للحكومة والدولة التونسية عند دخول أحمد بن صالح الى الحكومة وتوليه وزارة التخطيط.
وقد دفعت الأنشطة السياسية للأستاذ دي برنيس ومساندته القوية للحركة الوطنية في بلادنا ولجبهة التحرير الجزائرية السلطات الاستعمارية الفرنسية إلى طرده قبل الاستقلال.
ثم عاد الأستاذ دي برنيس من جديد إلى بلادنا عند وصول صديقه أحمد بن صالح إلى السلطة ليكون من أقرب مستشاريه في سياسات التخطيط الاقتصادي وخاصة في بناء أقطاب التنمية الجهوية.ثم غادر دي برنيس بلادنا مجددا بطلب من أحمد بن صالح بضعة أشهر قبل إيقافه.ويعتقد دي برنيس أن هذا الطلب جاء من صديقه لحمايته بعد أن عرف أن أيامه أصبحت معدودة في الحكومة.

وقد جعلت هذه التجربة الأستاذ دي برنيس في علاقة خاصة ببلادنا ومع كل الطلبة التونسيين الذين درسوا لديه .

إلى جانب العلاقة الدراسية وتأطيره لي وإشرافه على تكويني جمعتني بالأستاذ دي برنيس علاقة خاصة فيها الكثير من الحب والعطف مما دفعه إلى إعطائي الكثير من المسؤوليات وتشريكي في اغلب البرامج البحثية التي أشرف عليها .كما ساهم بصفة كبيرة في مساري المهني ودخولي إلى المؤسسات الدولية وخاصة مؤسسات الأمم المتحدة.

كان لي ما أردت فتنقلت إلى قرونوبل وتحصلت على شهادة الدراسات المعمقة في اقتصاد التنمية ثم سجلت في مرحلة الدكتوراه في الاقتصاد الدولي وأصبحت عضوا في فريق الدكتوراه(équipe doctorale) الذي يشرف عليه الأستاذ دي برنيس .وكان هذا الفريق كخلية نحل مع طلبة قادمين من كل بقاع العالم من أمريكا اللاتينية ومن آسيا ومن إفريقيا ومن أوروبا ومن المنطقة العربية إلى جانب بعض الطلبة الفرنسيين .ووجد هذا التواجد تفسيره في تأثير هذه المدرسة في الفكر الاقتصادي النقدي لتصبح قرونوبل قبلة كل الذين يطمحون إلى النهل من هذا المنهج في مختلف أنحاء العالم. وكانت هذه التجربة مهمة في حياتي المعرفة والدراسية .إذ إلى جانب علاقات الصداقة تمكنت من التعرف على تجارب التنمية في عديد من بلدان العالم وقمت بدراسات مقارنة لهذه التجارب .

وقد قرر الاستاذ دي برنيس في تلك الأيام وكنا نعيش وقتها على وقع أنباء الحظر الاقتصادي الذي قامت به الولايات المتحدة وأوروبا على ليبيا ثم العراق تخصيص رسالة دكتوراه حول هذه المسالة.وطلب من طالبة شابة فرنسية التحقت بالفريق تخصيص رسالتها لدراسة الانعكاسات الاقتصادية للحظر والحصار الاقتصادي على البلدان.

وكانت هذه الرسالة الأولى للدراسات التي خصصت لهذا الموضوع.واذكر معاناة زميلتنا في الحصول على المراجع الضرورية للقيام ببحثها.الا أن الأوضاع تغيرت اليوم ليصبح موضوع الاقتصاد السياسي للحصار والحظر الاقتصادي مجالا مهما للبحث والدراسة وخصصت له كبرى الجامعات أقساما. كان هذا الاهتمام نتيجة لتضاعف استعمال سلاح الحظر في العلاقات الاقتصادية الدولية اليوم. ومن أهم الأخصائيين في هذه القضايا اليوم الأستاذ الجامعي نيكولاس مولدر (Nicolas Mulder) والي يدرس في جامعة كورنال
( cornell) في مدينة نيويورك.وقد اصدر منذ أيام مؤلفا ضخما تحت عنوان «The economic wearpor the crise of sanctions as a tool of modern war» عن درا نشر جامعة يال الشهيرة (Yale university press) بقرابة 500 صفحة ويمكن ترجمة عنوانه «السلاح الاقتصادي» صعود العقوبات كأداة للحروب الحديثة»

وقد عرف هذا المجال نمو الدراسات والبحوث التي مكنت المختصين من دارسة العواقب الاقتصادية و السياسية لهذه العقوبات بالكثير من الدقة.على اختلاف مشاربها واختصاصاتها وقد وصلت هذه البحوث إلى نتيجة واحدة وهي فشل وعجز وعدم فاعلية سلاح الحظر والحصار الاقتصادي في تحقيق أهدافه السياسية وفي فرض مواقف على الدول المارقة ودفعها إلى تغير مواقفها .
وترتكز هذه النتيجة على قراءات تاريخية وسياسية واقتصادية .

• فشل سلاح المقاطعة عبر التاريخ
إن فرض عقوبات الحظر ليس وليد التاريخ المعاصر بل يعود إلى أزمنة غابرة وقديمة في التاريخ إلا أن استعمال هذا السلاح شهد تطورا كبيرا وتسارعا في الحرب العالمية الأولى حيث كانت شعوب الدولة العثمانية والإمبراطورية النمساوية والهنغارية وألمانيا عرضة لعقوبات اقتصادية كبيرة كانت نتيجتها آلاف الموتى والضحايا.

وقد تواصل استعمال هذا السلاح اثر الحرب حيث استعمله المنتصرون ضد المنهزمين وأصبح أحد الادوات التي أقرتها عصبة الأمم والتي تم تكوينها سنة 1919 وطبقتها ضد الدول التي لا تحترم قراراتها .
وقد وقع استعمال هذا السلاح ضد ألمانيا .كما استعملته الولايات المتحدة الأمريكية ضد اليابان اثر هجومها على الصين سنة 1937 وذلك بقرار من الرئيس الأمريكي روزفلت . وقد وقع حظر وقود الطائرات وعديد المواد الأولية كالحديد على اليابان .وقد اشتد هذا الحظر على اليابان وشمل كل البلدان الأوروبية اثر هجومها على شبه القارة الصينية كما شمل بصفة خاصة البترول. وكان هذا الحظر السبب المباشر لدخول اليابان للحرب وهجومها على القوات الأمريكية في بارل هاربور Pearl harbor .
في سنة 1935 اخذت منظمة عصبة الأمم قرار الحظر ضد ايطاليا اثر هجومها على أثيوبيا .

وقد اثبتت الدراسات التاريخية أن قرار الحظر لم تكن له فاعلية وجدوى.ذلك أن كل الدول التي دخلت تحت هاته العقوبات مثل اليابان وايطاليا وألمانيا لم تتغير مواقفها المعادية للغرب بل خرجت من هذه الأزمات أكثر قوة لتدخل في حروب عنيفة ضد الدول الغربية .وكانت الحرب العالمية الثانية ابرز مثال على فشل هذا السلاح.

وتشير الدراسات التاريخية تشير إلى بعض النجاحات من وراء تطبيق هذا السلاح مثل الحرب بين يوغسلافيا وألمانيا سنة 1921 والحرب بين بلغاريا واليونان سنة 1925 حيث أن إشهار هذا السلاح من طرف عصبة الأمم أوقف الحرب.وتشير هذه النجاحات إلى إن فعالية هذا السلاح والمقاطعة مرتبطان بحجم الدول ومفعوله يكتسي أهمية كبرى عند الدول الصغيرة ذات الإمكانيات المحدودة والمرتبطة ارتبطا وثيقا بالخارج والاقتصاد العالمي .

• في محدودية النتائج السياسية لسلاح المقاطعة
لقد اثبت الدراسات أن النتائج السياسية لهذا السلاح محدودة جدا على الأقل على ثلاث مستويات .
المستوى الأول يخص التوتر السياسي العالمي حيث أن هذه السياسات والمحاصرة لا تساهم في انخفاض مخزون التوتر بل على العكس من ذلك تزيد من اشتعاله وتأجيجه.
أما المستوى الثاني فيخص الأنظمة الاستبدادية والتي يعمل هذا السلاح على إضعافها فقد لاحظنا النتائج العكسية حيث ساهمت هاته القرارات في اغلب الاحيان في تقويتها وخلق تحالف مقدس حولها يزيد من قوتها ويضاعف من سطوتها.
أما المستوى الثالث فيهم إمكانية أن تثور الشعوب في هذه البلدان على حكامها وتحملها مسؤولية تدهور أوضاعها نتيجة الحصار. إلا انه في اغلب الأحيان تتحمل الشعوب نتائج هذه القرارات وتتدهور أوضاعها الاجتماعية دون أن تكون قادرة على الثورة وتغيير الأنظمة الاستبدادية .

• عدم جدوى سلاح الحصار على المستوى الاقتصادي
لقد أثبتت الدراسات عدم جدوى هذا السلاح من الناحية الاقتصادية وذلك لسببين على الأقل .
الأول هو قدرة الاقتصادات تحت الحصار على التكيف. فبعد انكماش اقتصادي كبير خلال الأشهر والسنة الأولى تتمكن اغلب الاقتصادات ن من التكييف مع الواقع الجديد لتعود عجلة الاقتصاد للدوران ولو بنسق أقل من قبل .
أما المسالة الثانية فتهم الاقتصاد المعولم ودور الاقتصاد تحت الحصار وتأثيره على الاقتصاد الدولي. واثبتت عديد الدراسات أن الحصار يكون له تأثير - لا فقط - على الدول التي تخضع له بل كذلك على الدول التي تقرره.والمثل الروسي اليوم أهم دليل على ذلك باعتبار أن الحصار دفع البلدان الأوروبية إلى البحث على مصادر أخرى للطاقة والغاز لتعويض الواردات الروسية .

لقد ساهم الاقتصاد السياسي للحصار والدراسات التي قامت بها عديد الجامعات الكبرى والباحثين المرموقين في هذا المجال في التأكيد على عدم فاعلية سلاح الحصار وعجزه عن تحقيق أهداف سياسية ذات بال. ورغم هذه النتائج فإن الدول الكبرى تواصل هروبها إلى الإمام وسياساتها المغامرة دون الاهتمام بانعكاساتها السلبية على الوضع الدولي وعلى أوضاع الناس .

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115