ماكرون إلى سدة الرئاسة ويتمكن من هزم مارين لوبان مرشحة اليمين المتطرف في الدور الثاني من هذه الانتخابات ؟
تشكل هذه الأسئلة الحارقة اليوم أولى اهتمامات الناخبين في فرنسا كذلك الناشطين السياسيين عل المستوى العالمي.فالكل يريد أن يعرف هل ستسقط إحدى أقدم الديمقراطيات في العالم في يد اليمين الشعبوي بعد أن عرفت الولايات المتحدة إثر انتصار دونالد ترامب وإن لم يطل هذا القوس طويلا مع انتصار بايدن في الانتخابات الأخيرة.
وهذا السؤال وإلى جانب انعكاساته السياسية المباشرة على فرنسا فإنه يطرح مسألة جوهرية نعيشها اليوم ونكتوي بشظاياها وتهم أزمة المشروع الديمقراطي وعجز القوى السياسية التقليدية عن فتح آفاق جديدة للتجربة السياسية .وفي ظل هذه الأزمة العامة برزت الشعبوية كبديل للمشروع الديمقراطي وأن الخروج من التهميش الاجتماعي والفقر والضيم الاجتماعي يمر عبر لفظ أسس الديمقراطية التمثيلية المباشرة ورفض كل الوسطات بين الشعب والسلطة .
ورغم النقد الذي وجهه الكثيرون من مفكرين وناشطين سياسيين لهذا البديل المغامر والمخيف فانه لازال يتمتع بتأثير كبير على المستوى الشعبي في العديد من البلدان .ولعل اكبر دليل على ذلك إعادة انتخاب فيكتور أوربان (Victor orban) في المجر منذ النقد الشديد الذي وجهه له المسؤولون الأوروبيون وإيقاف الدعم المالي وتوحد المعارضة لإسقاطه.
كانت الانتخابات في هذا البلد محكا لاختبار قدرة الأنظمة الشعبوية على الصمود في خضم المعارك الكبرى.وقد أثبتت هذه النتائج قدرة هذه القوى على الوقوف بكل جدية وندية طالما أنها تتمتع بدعم شعبي واسع أمام عدم قدرة القوى السياسية التقليدية على بناء مشروع سياسي جديد يكون قادرا على الإجابة على مخاوف الناس وعلى تدهور ظروف عيشهم وتنامي التفاوت الاجتماعي .
تابع اغلب الملاحظين أطوار الحملة الانتخابية في فرنسا في الأسابيع الأخيرة.ولئن ظهر منذ البداية خطر القوى الشعبوية اليمينية التي عرفت تطورا كبيرا في السنوات الأخيرة الا بدا بعيدا نوعا ما .لكن هذا الخطر أصبح محدقا في الأيام الأخيرة للحملة الانتخابية لتؤكد نتائج الدور الأول للانتخابات الرئاسية هذا الخطر حيث سيواجه الرئيس المتخلي إيمانويل ماكرون مرشحة اليمين الراديكالي مارين لوبان .
وتشير استطلاعات الرأي الأولية أن الدور الثاني سيكون متقاربا حتى وإن كان الرئيس ماكرون يتمتع بشيء من الأسبقية .
وعند قراءة هذه النتائج لابد لنا من طرح سؤالين مهمين .الأول يهم أسباب صعود اليمين الشعبوي والهزيمة النكراء للقوى السياسية الديمقراطية والتقليدية والتي فتحت أبواب الشعبوية أمام احد أعتى الديمقراطيات في العالم .والسؤال الثاني يهم شروط تراجع الشعبوية في فرنسا وبناء مشروع ديمقراطي جديد.
• في أسباب هزيمة القوى الديمقراطية وصعود اليمين الفاشي
ليست هذه المرة الأولى التي يصل فيها مرشح اليمين المتطرف إلى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية الفرنسية.فقد تمكن جان ماري لوبان والد المرشحة الحالية من الوصول إلى الدور الثاني لرئاسية 2002 حيث واجه جاك شيراك مرشح اليمين كانت الغلبة له بـ%82 من الأصوات .وقد شكلت هذه الانتخابات هزة عنيفة في المجال السياسي الفرنسي حيث اعتبرها عديد الملاحظين زلزال 21 افريل 2002 وهو الدور الأول الذي شهد انسحاب ليونال جوسبان مرشح اليسار والذي كان عندها الوزير الأول.وكانت هذه الانتخابات نقطة تحول كبرى في الساحة السياسية الفرنسية حيث تحول اليمين الشبعوي من موقع المعارضة المهشمة إلى موقع الحالم بالوصول إلى الحكم في اكبر الديمقراطيات الغربية .
وقد أعاد اليمين المتطرف الكرّة في الانتخابات الرئاسية لسنة 2017 حيث وصلت مارين لوبان إلى الدور الثاني لمواجهة ماكرون.وآلت الغلبة إلى الرئيس الفرنسي في الدور الثاني بـ%66 مقابل %33.ورغم هزيمة اليمين المتطرف إلا أن نتائج الانتخاب أصبحت تشير إلى أن امكانية وصوله إلى الحكم أصبحت مسالة حقيقية وجدية.
وقد تكثفت المخاوف في الانتخابات الرئاسية الحالية لتصبح إمكانية وصول اليمين المتطرف مسألة جدية .وهذه الإمكانية لا ترتبط فقط بنوايا التصويت للدور الثاني التي أعلنت عنها شركات سبر الآراء بل لخمسة أسباب وتطورات سياسية كبرى تؤثر تأثيرا كبيرا على الوضع السياسي في فرنسا.
السبب الأول يهم الأزمات الاقتصادية وانعكاساتها الاجتماعية وبصفة خاصة على الطبقات الشعبية .وقد زادت جائحة الكوفيد من عمق هذه الأزمات رغم الدعم الذي قدمته الدولة للمؤسسات الاقتصادية وللفئات الضعيفة.فقد عرفت فرنسا ترديا كبيرا لظروف معيشة الفئات الشعبية زادتها السياسات الموغلة في الليبرالية تعفنا.وكانت نتيجة هذه الأوضاع تطور الاحتجاجات الاجتماعية والرفض والحنق والتي عبرّت عنها احتجاجات السترات الصفراء بكل قوة.
أما السبب الثاني والذي يفسر صعود اليمين المتطرف والحركات الشعبوية وتغلغلها في الطبقات الشعبية فيهم السياسات التي تم تطبيقها من طرف مختلف الحكومات والتي دافعت عنها الأحزاب التقليدية .فقد اختارت هذه الحكومات سياسات قريبة من مصالح الشركات الكبرى والفئات الاجتماعية الغنية ومن أهمها إلغاء الضريبة على الثروة ومواصلة السياسات التقليدية على الفئات الشعبية .وخلقت هذه السياسات شعورا عاما بأن الحكومات والأحزاب التقليدية تدافع عن مصالح النخب المالية والفئات الثرية وتركت الفئات الشعبية لحالها لمواجهة الضيم لاجتماعي بدون دعم.
وقد نجحت الحركات الشعبوية واليمين المتطرف في استقطاب سخط الطبقات الشعبية لتصبح الناقد للسياسات الليبرالية والمدافع عن مصالحها .وفي نفس الوقت كانت هذه الخيارات وراء القطيعة بين الأحزاب التقليدية وخاصة اليسارية منها مع الطبقات الشعبية مما ساهم في هزائمها الانتخابية المتواصلة .
أما السبب الثالث الذي يفسر الخوف الكبير من وصول اليمين المتطرف للسلطة في فرنسا فيعود إلى انهيار الأحزاب الديمقراطية التقليدية نتيجة قطيعتها وابتعادها عن الطبقات الشعبية .فلم تتحصل فاليري باكراس – مثلا – وهي مرشحة اليمين والذي حكم فرنسا لسنوات طويلة إلا على %4.79 من الأصوات في الدور الأول للانتخابات الرئاسية.بينما لم يتحصل يانيك جادوا مرشح الخضر والذي رفض كل محاولات توحيد مرشحي اليسار إلا على %4.58 من الأصوات.ولعل الهزيمة الأكثر أهمية هي سقوط آن هيدالقو شيخة باريس ومرشحة الحزب الاشتراكي الذي كان إلى فترة قريبة أهم قوة يسارية في فرنسا بحصولها على %1.74 من الأصوات .
وقد عرف الدور الأول من الانتخابات الرئاسية انهيار كل مرشحي الأحزاب الديمقراطية التقليدية مما ساهم في حظوظ في وصول اليمين المتطرف في الوصول إلى السلطة.
السبب الرابع والذي ساهم في تقدم اليمين المتطرف فيخص قضايا الهجرة والأمن والخوف من الآخر يشكل عام.فقد نجحت هذه القوى في إقناع الناخبين بأن الآخر هو احد أسباب الأزمات والتهميش الاجتماعي التي يعيشها على المستوى الداخلي باعتباره يساهم في النسب العالية للبطالة .كما نجح اليمين الشعبوي في إقناع الفئات الشعبية بان الآخر ساهم من خلال العولمة وتمويل عديد الصناعات ذات الكثافة العمالية العالمية في اختطاف مواطن الشغل والحكم عليه بالبطالة .وقد نجح خطاب اليمين في استقطاب الطبقات الشعبية من خلال التأكيد على مسؤولية الآخر في تدهور أوضاعه الاجتماعية .
أما العامل الخامس والذي لعب دورا كبيرا في صعود اليمين الشعبوي فيهم حالة الخوف والرهبة الناتجين عن عدم الاستقرار العالمي والمخاطر التي تهدد العالم وبصفة خاصة العالم الغربي.وزادت الحرب في أوكرانيا والهجوم الروسي من حدة هذه المخاوف .ولقيت مقترحات اليمين الشعبوي بالخروج من العولمة وإعادة بناء الدولة الوطنية المنغلقة على ذاتها والمهتمة بمصالحها الكثير من الدعم من قبل الطبقات الشعبية.
وقد خلقت هذه العوامل وضعا عاما في فرنسا سيطر عليه الخوف من الآخر والرهبة منه وذلك أمام حالة الاحتقان العالمي من جهة والرفض والحنق من جهة آخر أمام الحكومات والسياسات التي أدارت الظهر لمصالح الطبقات الشعبية ودافعت عن مصالح الفئات الغنية والاحتكارات والشركات الكبرى.وقد ساهم هذا الوضع في صعود الشعبوية اليمينية التي أصبحت قاب قوسين من الوصول إلى السلطة في هذه الانتخابات الرئاسية ولعل ما ساهم في تأثير هذه القوى و دفاعها على برنامج محافظ يطرح عودة الدولة القوية والمنغلقة على ذاتها أمام عواصف العولمة ورفض السياسات المناهضة للطبقات الشعبية دون تقديم بدائل واقعية وجدية للخروج من هذا لازمات .
• في شروط تراجع الشعبوية في فرنسا
رغم وصول مرشحة اليمين المتطرف الى الدور الثاني من الانتخابات الرئاسية ورغم الظروف الموضوعية الصعبة والتي قد تفتح الطريق أمام وصول اليمين الشعبوي إلى السلطة فإن قوى الديمقراطيين اليوم منكبة اليوم على المستوى الآني على إيقاف هذا الخطر الداهم .
أما على المستوى المتوسط والطويل فإن اغلب الملاحظين يؤكدون على مسألتين هامتين وهما ضرورة ضبط برنامج مشروع جديد يضع المسألة الاجتماعية في أولى اهتماماته.تاريخيا نجحت فرنسا سنة 1936 مع الجبهة الشعبية و1968 اثر ثورات الشباب و1981 مع انتخاب ميتران في الرد على المخاطر اليمينية والشعبوية من خلال صياغة برامج وسياسات وضعت تحسين الأوضاع الاجتماعية للطبقات الاجتماعية في أولى أولوياتها .
أما المسألة الثانية فتهم تجاوز الأنانيات ومحاولة توحيد القوى الديمقراطية والخروج من التشرذم القاتل.
وقد اعتقد الكثير من الملاحظين والناشطين السياسيين والمفكرين أن السنة الحالية ستكون سنة الخروج من الشعبوية المغامرة إلا إن التطورات الأخيرة في المجر وفي فرنسا اثبتت أن الطريق لعودة البريق للمشروع الديمقراطي ستكون طويلة وستتطلب الكثير من الجهد لبناء مشاريع جديدة تضع في أولى أولوياتها مسائل العدالة والمساواة الاجتماعية .
هل ستصمد فرنسا أمام رياح الشعبوية اليمينية العاتية ؟
- بقلم حكيم بن حمودة
- 09:37 18/04/2022
- 1215 عدد المشاهدات
هل ستتمكن فرنسا من الإفلات من قبضة اليمين الشعبوي المتطرف في الانتخابات الرئاسية؟ وهل سيعود الرئيس البراغماتي