خفايا ومرايا: سراب رمضاني «بابلو بيكاسو»

نعرف جميعاً أن الفن ليس الحقيقة، إنه كذبة تجعلنا ندرك الحقيقة.

رمضان في الأصل هو شهر الإقبال على الموائد الزاخرة بالشهوات والمأكولات الدّسمة ، لكن هو أيضا شهر الإقبال بلهفة على المسلسلات التونسية واكتشاف ما تخبّئه من مفاجآت وحكايات تروّح عن النفس وتنعش الخيال، كلّ النّاس بعد الإفطار تقريبا يستمرون امام جهاز التلفزيون لمشاهدة أكثر من مسلسل كلّ ليلة، وفي النّهار يشغلون أنفسهم بالحديث عنها وتقييمها، لقد صار الإدمان على متابعة المسلسلات التونسية عادة ثابتة مرتبطة بشهر رمضان « وفي الحقيقة هذه العادة تعود إلى ما قبل التلفزيون لكن مع الإذاعة حيث كان الناس إثر آذان المغرب يضعون أذانهم أمام الراديو لمتابعة المسلسلات الصوتيّة مثل «برق الّيل» و»الحاج كلوف» و»شناب» ، فمازال إلى اليوم ا يتذكّر جيل الستينات والسبعينات أسماء أولئك الممثلين الكبار أمثال «حمودة معالي» «محمّد بن علي « «البشير رحّال « «عزالدين بريكة» وغيرهم من الذين انتزعوا إعجابهم وحبهم لسلاسة نطقهم التي ولعمق معاني حكاياتهم ولتلقائية تعبيرهم.
لكن لمّا دخل التّلفزيون، غيّر بسرعة أذواق الناس فهجروا الإذاعة وانجذبوا إلى متعة الصورة وسحرها، وبالنسبة للدولة أصبح التلفزيون الأداة الرئيسية للتواصل مع الشعب وصناعة الرأي العام، فإلى جانب الاستخدام السياسي جعلت منه وسيلة للتّحكم في اذواق الناس والتأثير في سلوكهم الاجتماعي، لذلك وضعت في البداية الإمكانيات لدعم الأعمال التلفزية ذات الطابع الدعائي أو التوجيه الاجتماعي او الفنّي الذي لا يخرج عن سياستها، وقد سمح ذلك بإنجاز بعض الأعمال المحترمة من ناحية المواصفات الفنّية رغم ضيق المساحة النقدية ، لكن إثر انتشار الفضائيات واحتدام المنافسة التلفزية خاصة مع المنتوج المصري والسوري والتركي ، لم يعد بمقدور الدولة مواكبة التطور وتلبية حاجة المشاهد التونسي الذي كانت ميوله تتغيّر باطراد فكان دخول القطاع الخاص للميدان...أعطى ذلك بعض التحسن في الشكل و التّحرّر في المضامين ، لقد كان للقنوات الخاصة الجرأة للتّطرّق للظواهر الإجتماعيّة التي كانت تعتبر المحرّمات ولا تتناولها الأجهزة التابعة للدولة إلا من وجهة النظر الرسمية

وقد مثلا مسلسل مكتوب ونجوم الليل تحوّلا نوعيّا في الأعمال الدرامية التّونسية شكلا ومضمونا، حيث صوّرا بتقنيات متطوّرة وبشكل صادم الواقع المخفي وراء واجهات المال والنفوذ بتونس بالحديث عن وجود الجريمة المنظمة و تجارة المخدّرات، واستغلال النفوذ، والعلاقات الجنسية خارج إطار الزواج، و العنصرية، وعن ازدهار فئة من المجتمع تنتعش في الفساد وتتمعّش من قربها إلى مراكز النفوذ، وسرعان ما صارت تلك المسلسلات تمثل مرجعا ومنهجا خاصا في الإنتاج الدرامي حيث جاءت على منوالها ا مسلسلات الأخرى مثل، أولاد مفيدة، أولاد الغول، فوندو وغيرها
لقد لاقت تلك الأعمال استحسانا إعجابا من قبل الكثيرين من المشاهدين واعتبروها في مرحلة ما معبّرة عن همومهم وموقفهم مما كان يحدث بالبلاد، نجحت تلك الأعمال في منافسة المسلسلات المصرية والسورية والتركية وافتكاك المساحة الرمضانية منهم، لكن مع تكرّر نفس المضامين تحت عناوين مختلفة بدأت الكثير من الأصوات ترتفع متوجهة بالنقد الاذع لتلك الأعمال متهمين المنتجين بالبحث عن الإثارة وتوسيع قاعدة المشاهدين عبر المبالغة وبيع الوهم، في الأول كان ذلك النقد يصدر عن جهات محافظة المعروفة برفضها لكلّ نفس تحرّري في المجالي الفنّي ، لكن خلال شهر رمضان الحالي شمل الاستياء حتّى فئات تنسب نفسها للفكر الحداثي والتّحرّري، و السبب هو عرض مسلسل «براءة» الذي يتعرض لظاهرة الزواج العرفي بالبلاد ورأوا أنّ في ذلك مسّا بالمكتسبات التقدمية للمرأة في بلد وألغى تعدّد الزوجات منذ صدور مجلّة الأحوال الشخصية أكثر من نصف قرن ، وأنّ الإشارة إليه والحديث عنه ولو في عمل فنّي هو نوع من التشريع لوجوده والتطبيع مع الأفكار الرجعية .

وإن كان معروفا أنّ القطاع الخاص أوليته هو الربح ولو بالإثارة وبيع الوهم، فهل يبرّر كلّ هذا التّخوّف من عمل فنّي والدعوة للسلطة بالتدخّل كما جاء على لسان رئيسة «الاتحاد النسائي « حيث صرّحت بأنّها طرحت الأمر على رئيس الدّولة خلال اللّقاء الذي جمعه بها مؤخرا وعبّرت له عن مخاوفها، معتبرة أنّ ترويج مثل تلك الصورة عن واقع المرأة بتونس يمثل خطرا حقيقيا على مكتسباتها.

من حق أي فئة الاعتراض على أي عمل تعبره خطرا على المجتمع من وجهة نظرها، لكن دعوة الدولة لفرض رقابة على ضمائر الناس والتّسلّط على أذواقهم تبقى هي الأخطر، ما ستفتح الباب على مصراعيه لعودة قوى الرّدة المعادية لكلّ نفس تحرّري وفرض قيود على الإبداع جميع المبدعين دون استثناء.
فمهما كانت دوافع وخلفيات أعمال القطاع الخاص، سواء كانت البحث عن الإثارة بغاية جلب الإشهار والمستشهرين، أو خدمة أهداف إديولوجيّة معيّنة، فإنّ التعتيم والتستّر على الظواهر والسلوكيات المتفشية في بعض الأوساط بفعل تداخل الثقافات والتغيّرات الاجتماعية بات أمرا مستحيلا بسبب الثورة الاتصالية في العالم وتعدّد شبكات البث ومصادر الفرجة مثل الحواسيب والهواتف الجوالة، ومواجهتها بالغلق والمنع ستزيد في هروب فئة كبيرة من المشاهدين نحو شبكات السمعي البصري الأجنبية.

إنّ ردود الفعل المتناقضة حول الأعمال الدرامية التونسية التي تعرض خلال هذا الشهر من جهة تعكس حالة الشك والخوف التي تسيطر على نفسية المواطن التونسي بسبب تأزّم أوضاعه الاقتصادية السياسية وغموض المستقبل، ومن جهة أخرى تبرز مدى تعطش ذلك المواطن لأعمال ثقافيّة وفنّية وتعبّر عنه وعن همومه، ومواصلة تجاهل الملف الثقافي وإهماله وعدم التفكير في تنويع مصادر الإنتاج وإيجاد مناخ من الحرية يشجع على الخلق والإبداع، ستتفشى حالة القلق والإحباط أكثر في مختلف الأوساط وتزداد مناعة المجتمع ضعف أمام زحف سيول الثقافات الزاحفة من كلّ أنحاء العالم.

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115