منبــــر: الثـــــورات والمزرعـــة

«انها الاحلام الذهبية التي لم يستطع الزمان ان يجري عليها بالنسيان»

رواية «مزرعة الحيوان» (Animal farm) التي ألفها الكاتب الانجليزي الشهير ، جورج ارويل، في منتصف اربعينيات القرن الماضي، سياسية ورمزية بامتياز يقول عنها الكاتب نفسه انه «أدمج الهدف السياسي والبعد الفني في رواية واحدة» ( وقد يكون الادق، انه جعل البعد الفني والرمزي يخدم المقصد السياسي) وهي تروي قصة ثورة تبدأ بحلم وعنفوان وعزيمة وصدق كل الثورات وتنتهي بانتكاسة مريرة ، حيث تقرر حيوانات مزرعة ما ان تثور ضد عبودية قاهرة فرضها صاحب المزرعة وتقدم التضحيات الجسام فتنجح في طرده والقضاء على ظلمه وتنهي الفساد الذي استشرى والقهر الذي استبد ، وتبدأ في نشر العدل الذي طالما حلمت به و تنطلق في العمل والانجاز ، بعزيمة وثبات من يعتقد ان المردود سيكون مشتركا وان العدالة ستتحقق، و اصبحت كل الحيوانات سعيدة في عملها حتى انها لم تكن «تتوانى عن تقديم اي جهد في العمل، لأنها مقتنعة ان ثمرة انتاجها ستتقاسمها بإنصاف وسيبقى منها لمن بعدها ...»

لكن في غمرة الحلم والعزيمة تتصارع الخنازير حول السلطة، فينفرد احدها بالحكم بمساعدة كلاب المزرعة التي تربّت على الطاعة، ليس لحكم القانون بل لمن بيده صولجان الحكم... فيعود مربع الظلم والقهر والتسلط وتضاف الى وصية الثورة عبارة تمييزية تعكس البيروقراطية الجديدة والحيف الصاعد، حيث يعدّل المبدأ الثوري الذي ينص على تساوي كل الحيوانات ، بإضافة تمييزية ، فيصبح الشعار» كل الحيوانات متساوية ،ولكن بعض الحيوانات اكثر مساواة من غيرها.»

وهكذا يتحوّل الحلم الى كابوس مرعب ، وتقضي حيوانات المزرعة على استبداد لتلد من رحم خيباتها استبدادا اكثر وحشية وظلما وقهرا، فالثورات، كما يرى الكاتب، تبدأ بأهداف سامية وشعارات نبيلة و لكنها حين تنجح وتضع اللبنة الاولى في تحقيق الحلم ، تبرز قيادات انتهازية ماكرة تحوّل مجراها وتبيع اوهاما سرعان ما تصدقها العامة التي يحملها جورج ارويل المسؤولية ايضا ، لأنها تساهم في عودة الاستبداد ، بسذاجتها وجهلها وسرعة خضوعها .

• انكسار الانتفاضات العربية:
الحديث عن الانكسارات يجرنا الى الانتفاضات التي شقت المنطقة العربية وعرفت باسم ثورات الربيع العربي، ثورات تقاطعت مطالبها الداعية الى انهاء الاستبداد والفساد والقمع والحيف الاجتماعي وارساء الحرية والعدالة ، ولكن بعد اكثر من عقد من الحروب الاهلية والتطرف والانقلابات العسكرية واستشراء الفساد وغياب الحوكمة الرشيدة ، تشابهت المالات في غياب الاستقرار ، واصبحت الانظمة القائمة اشد فتكا بشعوبها ، واطلت الشعبوية لتتمدد دون كوابح دستورية أو مؤسساتية.

• الشعب يريد، لكن ماذا يريد؟
هكذا اذن تحول حلم الثورة الى كابوس وتحوّل ما سمّي بالربيع العربي الى شتاء قاس وبرز حكام جدد اكثر قسوة وديكتاتورية وانغلاق ، مستفيدين اساسا من احباط داخلي و محيط عالمي لم يعد يهتم كثيرا بقضايا الحريات ولا ينظر الى المنطقة العربية الا على انها مصدر قلاقل وازعاج ومخاطر، في حاجة الى يد من حديد وحاكم متسلط ، يتعامل مع الغرب وفق مصالح ضيّقة مشتركة ويقف حارسا لمنع الهجرة غير النظامية ويحمي من مخاطر الارهاب القادم ،ولتذهب الشعوب وطموحاتها المشروعة (ومعها المبادئ الانسانية ) الى الجحيم...
والحقيقة ان الانتفاضات العربية كانت مبنية على شعارات تناهض الاستبداد والظلم والفساد ولكنها كانت عاجزة عن تقديم البدائل السياسية والاجتماعية التي تلبي تطلعات الشعوب.

خذ مثلا شعار «الشعب يريد اسقاط النظام» ، الذي تردد في كل الانتفاضات العربية ، فهذا الشعار لا يحمل في معانيه الا هدم الموجود ، وهو شعار مبتور لأنه كان يختزل السلطة في رأسها ، فيكفي ان يتنحى بن علىي ومبارك وصالح وغيرهم ، لنصرخ بملء حناجرنا اننا انتصرنا ، ولم ندرك ان سهولة الهدم تخفي صعوبة البناء الذي يتطلب مشروعا سياسيا متكاملا يتجاوز النوايا والشعارات الغائمة .... واذا ما اردنا ان نكون اكثر وضوحا ، نقول ان الشعار عادة ما يكون احدى تعبيرات المشروع البديل ، لا ان يكون هو البديل ....
ولان القوى السياسية والمدنية هذا المشروع فقد ظلت ركائز الانظمة، بزيها العسكري والمدني تخاتل وتنتظر الفرصة السانحة لتنقض على اجهزة الدولة وتنتقم لقيادتها المنحلة ، مدركة ان الاحزاب التي جاءت للحكم بعد الثورة عبر الانتخابات كانت عاجزة عن ادارة شؤون الحكم لغياب التجربة لديها ولتلهفها على السيطرة على مفاصل الدولة والاستئثار بريعها ومسؤولياتها ...

• هزال النخب المدنية ، تونس مثالا:

اضافة الى ضعف الاحزاب المدنية وترهل الاحزاب الاسلامية التي انهكتها سنوات حكمها الكارثية، لم تكتسب النخب المدنية والحقوقية والنقابية ثقة الشعب ، رغم دورها المحوري قبل وخلال الانتفاضات ، اذ اربكتها التطورات المتسارعة وارهاصات الواقع المتغيّر، فظلت مترددة بين رواسب ايديولوجياتها المتكلسة ورعبها من شعبوية صاعدة ترتكز احيانا على دعم شعبي قوي وقبضة امنية مجفلة وبين مبادئ انسانية مرتبكة و هشة ، تتقلب حسب الامزجة والظروف والانتماء ...فكان الصمت المتواطئ احيانا والمعارضة المحتشمة للانتهاكات والدوس على كل ما تحقق بجهدها ونضالها خلال السنوات القليلة

الماضية.

والان؟ يقول المفكر المغربي ، عبدالله العروي، ان التهرب من الاسئلة الجوهرية يجعل استبدالها بأخرى تافهة واحيانا تعطيلية ممكنا، وان الكسل الفكري الذي تعشش في اذهان النخب السياسية والمدنية يجعلها تقتنع بالسائد والموجود...
لذا ان نحن لم نواجه التخبط الحالي بطرح الاسئلة الحارقة حول مفهومنا للديمقراطية التي يجب ان تتجاوز عملية الاقتراع والانتخابات الحرة لتكون قيمة وقناعة وممارسة تمكننا من التعايش باختلافاتنا ، وان «رفاه « الحرية والديمقراطية لا يستقيم مع تنامي الحيف الاجتماعي والطبقي ، و ان البديل الحقيقي لا تصنعه الشعارات فقط، مهما كانت قوية ومعبرة ، وان الثورة يجب ان تحدث في العقل قبل ان تطلق صراخها في الشوارع، فان المزرعة ستبقى على حالها و الحلم الذي نصبو اليه يظل بعيد المنال... 

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115