قراءة: من أجل استراتيجية جديدة للصحة العمومية: «قررت أن أكون سعيدا لأن ذلك مفيد للصحة» فولتير

اعترفت السلطة أن هناك بعض الهنات خاصة في ما يتعلّق بحالات الطوارئ إلا أنّ هذه القراءة تخفي أزمة حقيقة وجدية لقطاع الصحة دون ادراك أن الإقبال اليومي للمواطنين

على الأقسام الإستعجالية في المستشفيات كان غيضا من فيض، أو الشجرة التي تخفي الغابة، وهو مجرد عارض بسيط لمشاكل هيكلية.
وبحلول وباء كورونا اكتشف المواطنون ما كان مستورا، وبالتأكيد تطلّبت الكارثة تحرّكا عاجلا، غير أننا واصلنا علاج علل القطاع، ولم ندّخر جهدا في ذلك، بالأوكسجين واللقاحات وأسرة الإنعاش فقط...
تعرّف منظمة الصحة العالمية بأنّ الصحّة هي «حالة من الرفاه البدني والعقلي والاجتماعي الكامل، والتي لا تكون فقط في غياب المرض أو العجز» وبالتالي فإن الصحة ليست فقط غياب المرض، وإنما هي استباقه.
كشف الوباء عن أهمية الصحة وأهمية دور الدولة في هذا المجال. ودون دولة قوية، لا شيء ممكن عندما يتعلق الأمر بالصحة. هذا الوباء الرهيب جعل أكثر الناس باختلاف مرجعياتهم يدركون مدى أهمية إدارة هذا القطاع العام، أي الصحة، التي تشمل جميع مكونات أجهزة الدولة. فالإدارة الجيّدة للقطاع الصحي تساهم في التماسك الاجتماعي، ليس فقط على الصعيد الداخلي بل كذلك على الصعيد الخارجي. ومن ناحية أخرى، فإنها، إذا تُركت في أيدي مصالح خاصة، ستشكل دون شك مصدرا للظلم والغضب الاجتماعي وتهديدا للأفراد والمجتمع على حد سواء.
أما على الصعيد الوطني، فيجب أن تعالج المسائل الصحية بمقتضيات الدفاع الوطني. فقد كشفت جائحة كوفيد عيوبا لا تعد ولا تحصى في صلب نظام الرعاية الصحية لدينا. لذلك لا يجب أن تغالطنا حالات الوفيات والطوارئ، فنظامنا الصحي، مثله مثل القطاعات الأخرى، يحتاج إلى إصلاحات شجاعة ومؤلمة وتوافقية.
يقول البروفيسور غريمود: «إن وجود نظام صحي قائم على المساواة والتضامن هو فرصة للأغنياء كي يحظوا بالرعاية كالفقراء «. هذا الهدف لا يتحقّق إلا من لدن الدولة.

في تونس، كان جيلي، جيل الاستقلال، قد تملّك تلك المقولة دون وعي. إذا كان الخطاب الرسمي يؤكد أن ركيزتي تنميتنا هما التعليم والصحة. وعلى الرغم من ضعف وسائل الدولة، فإن آباءنا، بفضل نكران الذات والوطنية، حققوا نتائج استثنائية في هذين القطاعين.
خلال التحول الليبرالي الذي حدث بعد فشل التجربة الاشتراكية في الستينيات، كان لدى رئيس الوزراء الهادي نويرة من الحكمة للحفاظ على هاتين الركيزتين من قوانين السوق. في التسعينات سلم نظام بن علي هذين القطاعين للقوى المالية. وربما كان التحسن الخادع الذي عقب ذلك قد ساهم في التضليل أكثر.
في الواقع، كان هذا التحسن مجرّد فخ لا غير. فقد قُوضت أسس النظام على نحو معقّد. لقد تعرض العقد الاجتماعي الذي وحدنا جميعا لتراجع رهيب. و كان ذلك بمثابة استقالة للدولة، بل أسوأ من ذلك، كان تخلياً عن فئات كاملة من المجتمع، وعن مناطق بأسرها، لذلك سيكون من الضروري بذل جهود جبارة، وهي بطيئة التنفيذ، للتخفيف من الآثار المأساوية لهذا الاختيار.

في سنة 1981 أضرب الجسم الطبي وشبة الطبي احتجاجا على معلوم الرسوم التي قدّرت بـ 500 مليم والتي أنشأتها حكومة مزالي. كان ذلك بمثابة فتح أبواب الجحيم. ومنذ ذلك الحين، بدأت الأزمة في القطاع الصحي تحتد، وكان الإصلاح الوحيد للنظام الصحي، وهو إصلاح 91 (القانون رقم 91-78 الصادر في 31 جوان 1991)، والذي لم يكتمل بعد، كان من أهم مراحل عملية تخلّي الدولة عن قطاع الصحة العمومية. فأصبح قطاع الصحّة غير قادر على تلبية احتياجات السكان، وغير قادر على الدفاع عن نفسه ويمكن أن نشير إلى عديد الأمثلة ليشهد تطورا كبيرا لقواعد السوق.

منذ عام 1987 وفيما يتعلق بالبنية التحتية، باستثناء اثنين أو ثلاثة هياكل عامة مهمة تم إنشاؤها، فإن البقية الباقية كانت مجرد ترقيع للهياكل الموجودة. ولعدم تمكن وزارة الصحة من إدارتها، تنازلت عن مستشفى حبيب ثامر الجديد للجيش الوطني. والحفاظ على المباني الموروثة من الحقبة الاستعمارية، جعل منها غير مناسبة تماما لممارسة الطب الحديث، ما جعلها تمتّص عنوان الباب الأول من ميزانيات الصحة. ولسنوات عدّة رأينا استثمارات استجابت لمنطق شخصي فقط، فغرف العمليات موزعة على هكتارات، خدمات لا تفي بأي معايير، مكاتب مساحتها 40 مترا مربعا.

بعض المستشفيات لم تتمكّن من سداد ديونها المستحقة للشركة الوطنية للكهرباء والغاز أو الشركة الوطنية لاستغلال وتوزيع المياه أو اتصالات تونس، وحتى الصيدلية المركزية لم تسدد ديونها أيضا. إن عدم الكفاءة، وعدم ترتيب النظام الصحي معلوم للجميع.

مشاكل الحوكمة والتمويل وإدارة الموارد البشرية وشبكة الأجور والفساد والتغيب وتحويل وجهة المرضى المرضى واختلاس الخدمات المتاحة والأموال وسرقة الإمدادات والأدوية والمحاباة والشركات والأعباء الإدارية المفرطة في مركزيتها تشكّل أبرز سمات أزمة القطاع الصحي.. ولم يكون بالإمكان الإهتمام بطريقة جدية بأزمة القطاع الصحي وإيجاد الحلول لها، كما وقع تهديد كل الذين حاولوا اثارة هذه القضايا.

ولتهدئة أصحاب النفوذ، أدخلت الحكومة نظاما يسمح، في ظل ظروف معينة (تحترمها أقلية صغيرة)، بقبول الأطباء مباشرة من قبل المرضى (APC أو النشاط الخاص التكميلي).

كان الفصل بين الطب العام والخاص مجرّد حكم دغمائي وذر رماد على العيون، ولكن في الواقع فإن طريقة الممارسة الفضلى لا تكمن إلا بتواصلهما معا. إن استقالة الدولة تعني أن التقاطعات بين هذين النظامين قد أضعفت دوائنا. ونتيجة من نتائج ذلك خضوع القطاع الخاص لقوانين المال فقط. وفي رأيي إن وجود القطاع الخاص أو عدم وجوده ليس موضوع المناقشة، ولكن إخفاقات الدولة في تنظيم الرعاية ألحقت به ضررا كبيرا.

وفي اللحظة التي أقلع فيها القطاع الخاص، تم تهميش القطاع العام في لامبالاة تامة من جانب الحكام. كان ذلك مقصودا في عام 1987، كان في تونس 28 مستشفى خاص فقط ليصبح أكثر من 4 أضعاف في عام 2018، من حيث الأسرة التي تمثل 796 سريرا في 87 مقابل 6500 في عام 2018 أي 8 أضعاف أكثر. من الواضح أن القطاع الخاص مكرس بشكل حصري تقريبا للطب العلاجي، وذلك ليس صادما، ولكن لا يزال من الضروري توزيعها.

لم تلعب الدولة دورها التنظيمي. فاليوم لدينا 75 ٪ من أجهزة السكانار التي تعمل في القطاع الخاص، وينطبق الشيء نفسه على التصوير بالرنين المغناطيسي (81 ٪) لاحظ أن 80 ٪ من مواطنينا يعاملون في القطاع العام. ويستفيد أكثر من الثلث من المساعدات الطبية المجانية (AMG1 و 2)، ناهيك عن الطلاب والفئات الأخرى غير المدرجة أو غير المدرجة بشكل جيد. وبأكثر دقّة، تستخدم مساهمات موظفي الخدمات المدنية وغيرهم من المساهمين لرعاية جميع السكان.

واليوم، يمثل إنفاق الأسر المعيشية 38٪ من الإنفاق الحالي على الصحة. ويعكس هذا المعدل المرتفع عدم المساواة من قبل النظام المعمول به. ويرى جميع الخبراء الوطنيين والدوليين أن هذا المعدل يمثل سببا في تفقير هؤلاء السكان المعرضين لنفقات صحية كارثية.
إن انعدام الشجاعة، وتخاذل الحكومات، وغياب السياسات الإستباقية، ولوبيات الفساد، والنقابات، شكّل ملامح الصحة العامة منذ عام 2011. ومنذ ذلك الحين كان لدينا 16 وزيرا للصحة في 10 سنوات. لذا إنّ الماضي لم يكن جميلا جدا، ولا بدّ لنا من معالجة أصل داء تآكل نظامنا الصحي. فلا تزال لدينا نقاط قوة، بما في ذلك الخبرة المعترف بها دوليا لمقدمي الرعاية لدينا، والتي يمكننا إعادة البناء من خلالها في القطاعين العام والخاص على حدّ سواء.

• الصحة أولا! الإصلاح في العمق
من خلال استعراض سريع لجزء صغير من التحديات التي يواجهها نظامنا الصحي، سلطنا الضوء من خلاله على سياسات التوجهات الصحية . وكدليل على ذلك، لا يتردد البعض خلال الحملات الانتخابية في اللعب على العاطفة عند الحديث عن المشاكل الصحية لدى المواطنين في محاولة لكسب الأصوات!
فصحة المواطن ليست مصلحة شخصية بل هي أيضا خيار مشترك، ولذلك ينبغي تنسيق الخيارات الصحية على نطاق واسع. ولا يمكن أن تنجح أي مبادرة في هذا المجال دون الالتزام الجماعي بالخيارات المشتركة. والهدف النهائي هو أن المواطنين لم يعودوا مجرد مستهلكين بل صناع قرار وفاعلين في صحتهم. وإدراكا منها لهذه الحالة وقبل انتشار الوباء بفترة كبيرة، بدأت وزارة الصحة في عام 2012 حوارا مجتمعيا في مجال الصحة. وقد حُشدت للحوار بشأن السياسات والاستراتيجيات والخطط الصحية الوطنية موارد بشرية ومادية كبيرة، وقد أجريت وفقا لمنهجية صارمة من قبل الخبراء بدعم من منظمة الصحة العالمية عدّة ندوات تدريبية، ومئات الاجتماعات مع المواطنين في جميع أنحاء الجمهورية. وسافرت آلاف الكيلومترات، وعقدت اجتماعات للإبلاغ عن النتائج، وتم نشر كتيبات في الغرض.. وقد تم تحديد إصلاح شامل للنظام الصحي التونسي وفقا لمعايير موضوعية. وكان عملا ضخما استشهدت به منظمة الصحة العالمية بانتظام كمثال معتمد في الخارج. هذا العمل لم يُستغل ربما يرجع ذلك لعدم وجود شجاعة سياسية أو عدم تملك للسلطة. وبغض النظر عن كل هذا، فإن سلوك السياسيين هذا قد أبطأ، على مدى 30 عاما، تنفيذ الإصلاحات اللازمة ما أحبط عزيمة كثير من الناس.
واقتناعا منا بأن نهاية الوباء قد اقتربت وأنّ استئناف الحياة الطبيعية سيتيح لنا فرصة فريدة لإجراء إصلاح شامل لنظامنا الصحي، فإننا نسمح لأنفسنا بأن نكشف، بتواضع، بعض الأفكار التي تبدو أساسية بالنسبة إلينا. أفكار تعكس بعض القناعات التي اكتسبنها بعد أكثر من 40 عاما من الخبرة المهنية على الصعيدين الوطني والدولي:

• البديهية الأولى:
الدولة هي المسؤول الأوّل والأخير عن قطاع الصحة ودون أي تنازلات، ولها مهمتين أساسيتين: التخطيط والتنظيم، لجميع الجهات الفاعلة من أجل ضمان حصول الجميع على خدمات صحية جيدة في كل أنحاء الجمهورية.

• البديهية الثانية:
وجود عدّة أنظمة صحية (خاصة عسكرية، عمومية..) لا بدّ لها أن تلبي القواعد والمعايير نفسها ويمكن لجميع المواطنين التمتع به.

• البديهية الثالثة:
التغطية الصحية الشاملة واحترام مبدأ الدفع المسبق. ولتحقيق هذا الهدف، من الضروري أن نجمّع في قطاع واحد الصندوق الوطني للتأمين على المرض والصحة. إن الرعاية الصحية الشاملة هي «وضعية يتلقّى فيها جميع الناس والمجتمعات المحلية الخدمات الصحية التي يحتاجونها دون مواجهة ضائقة مالية. ويشمل هذا البرنامج مجموعة كاملة من الخدمات الصحية الأساسية الجيدة، بما في ذلك تعزيز الصحة والوقاية والعلاج وإعادة التأهيل والرعاية».

• البديهية الرابعة:
يجب أن يجمع النظام الوطني للمعلومات الصحية (SINS) جميع التطبيقات الرقمية التي تسمح بإدارة البيانات الصحية للمستخدمين، بغض النظر عن قطاع الرعاية (العام والخاص والعسكري).

• البديهية الخامسة:
إن صحة المواطنين لا تتعلق بوزارة الصحة فحسب، بل إن دورها المركزي لا جدال فيه، بل تتعلّق بجميع إدارات الدولة، المالية، والفلاحية، والتجارة، والتعليم، والشباب والرياضة، والمرأة، والصناعة. وإنّ أحد جراح نظامنا تتلخص في طريقة صنع القرار.
وللأسف من النادر، أن تتم إدارة الملفات الصحية بطريقة أفقية بين مختلف الهياكل المعنية. فالتنسيق بين مختلف الوزارات المعنية بقضايا الصحة غير منتظم ويعتمد في كثير من الأحيان على استقلالية الأشخاص. وقد كان لهذا التقسيم عواقب وخيمة، لا سيما على المدى الطويل. على سبيل المثال اليوم في تونس يواجه أكثر من 68٪ من سكان الوسط الحضري وهي نسبة غالبا ما تكون مستقرة، الشيخوخة، وبعض السلوكيات الغذائية الجديدة الضارة، والسمنة التي تزيد عن 37٪، كنسبة تزايد استهلاك السكر التي تفوق 20٪، والتدخين بنسبة 23٪. باختصار، الأمراض التي يتم علاجها والتي لا تشفى على غرار السكري وأمراض القلب والأوعية الدموية والسرطانات في ارتفاع، ناهيك عن الصحة النفسية التي ترتفع بنسق مستمر في بلدنا. فالأمراض المزمنة (الأمراض غير السارية) تشكل بالفعل عبئا ثقيلا، سواء من الناحية الصحية (83 في المائة من أسباب الوفيات المبكرة) أو من الناحية الاقتصادية (63 في المائة من الإنفاق الصحي). ولا يبدو أن هذا التطور سيتوقف. وان هذه الآفاق القاتمة تبعث على الأسى في مواجهة تخلي الدولة عن الوقاية الصحية.
ظلت نسبة الميزانية المخصصة لجميع أشكال الوقاية تنخفض باستمرار وتقدّر حاليا بـ 4٪ فقط. ولا يمكن معالجة هذه الملفات بفعالية من قبل إدارة معزولة، بل إنها تقتضي تكاتفا حكوميا. وهنا أيضا كانت الصحة ضحية لوزير قرر عن علم تجميد المجلس الأعلى للصحة الذي أنشأه الوزير الأسبق الهادي البكوش. إن إعادة إحياء المجلس الأعلى للصحة برئاسة رئيس الحكومة ليس خيارا، بل هو ضرورة ملحّة.

وفي وزارة الصحة، تعتبر آليات صنع القرار غاية في المركزية. إذ أنّ آلاف الملفات يمكن أن تخمد حماسة أكثر المتفانين في العمل خاصة مع ذلك البطء الذي يرافق جميع المبادرات إذ أنّ آراء الجهات الفاعلة الإقليمية والمحلية تبقى استشارية لا غير. وعلى أرض الواقع يبقى مجال الحرية الممنوح للمستشفيات لا يستغل إلا لتصدير الإشكاليات والصعوبات. فالحديث فقط عن التمويل الذاتي للمستشفيات، المنصوص عليه في قانون 91، هو مجرد وهم لأن الأجور (باستثناء أجور العمال) تمثل ما بين 70 و80 ٪ من الميزانية. في بعض الأحيان يتم إنشاء خدمة ما أو تعيين أطباء دون استشارة الهيكل المحلي. فقد أنشئت مراكز لتصفية الدم، على سبيل المثال، أو لتقويم العظام دون توفير الميزانيات اللازمة لتشغيلها. ما راكم عجز المستشفيات. أما الصندوق الوطني للتأمين على المرض فيدفع أقل من الحد المطلوب للنفقات وعندما يدفع يكون متأخرا في كل الحالات، أما المستشفيات فلا تفي بفاتورة جميع النفقات المقدّمة، ما أدى إلى عدم الوفاء بديونها. وإنّ مثال عجز الصيدلية المركزية يوضح مدى الضرر الذي لحق بها من أوجه هذا التقصير.
أما الأموال المجمعة حاليا فهي غير كافية، ولا تغطي جميع المواطنين ، ولا تغطي جزء من النفقات ولا تغطي عدة خدمات أساسية لأنها تعتبر غير أساسية. والأخطر من ذلك أن 80 ٪ من الأموال المجمعة باللون الأزرق يستخدمها 20 ٪ فقط من المواطنين المرضى الذين يسعون للحصول على الرعاية في القطاع الخاص. وقد أدى هذا النظام، الذي كان يقصد به في البداية أن يكون أداة للتضامن، إلى تفاقم أوجه عدم المساواة.

مكعب لمختلف أبعاد التغطية
الصحية الشاملة
وقد يكون الإنفاق على المخدرات ترجمة كمية لاستقالة الدولة. إذ ينبغي استعراض تمويل الصحة من القمة إلى القاعدة، سواء من حيث طرائقه أو من حيث مستواه. وتتراوح حصة وزارة الصحة من ميزانية الدولة بين 5. 5 و 5. 3 في المائة، وتبلغ نسبة الإنفاق التراكمي على الصحة في الهياكل العمومية (وزارة الصحة + وزارة الدفاع + وزارة الداخلية + الصندوق الوطني للتأمين على المرض 13. 6 في المائة فقط. ويمثل الإنفاق الصحي 7. 23 ٪ من الناتج المحلي الإجمالي (الولايات المتحدة الأمريكية 18٪). كما أنّ انخفاض قيمة الدينار كفيل بالبقية الباقية، وفي نهاية المطاف، لم تتم صياغة كل ذلك بالمعايير العالمية المعتمدة، وقبل كل شيء لم تتم صياغة ذلك بكفاءة، ما أدى إلى تدني الإنفاق الصحي. فكانت العواقب كارثية. وبالتالي، فإن الأدوية المدفوعة في الصيدليات الخاصة تشكل الجزء الأكبر من جميع نفقات المواطنين الصحية. ولا تزال النفقات الصحية كارثية ومرتفعة للغاية، حيث تمثل 39 في المائة من الإنفاق (يمثل ارتفاع ضغط الدم والسكري 46 في المائة و 37 في المائة من هذه النفقات على التوالي). وكان للتخفيضات بين الطب العلاجي والوقائى وبين الطب الفردي والطب السكاني عواقب بعيدة المدى. .

إن تطور الأمراض غير السارية الموصوفة أعلاه يعتبر مثالا على ذلك. إذ كان لا بد من وضع السطر الأول على رأس الأولويات، عوض البحث الاستعراض والانتصارات الخادعة. وينبغي التفكير في إعادة هيكلة الخط الأول، من خلال الجمع بين مختلف الهياكل التي تنشط في الخطوط الأمامية، والشروع فيها دون أدنى تأخير. وعلاوة على ذلك، إذا أردنا تجنب الإفلاس في العقود المقبلة، فيجب أن نضع هدفا يتمثل في تخصيص 30 ٪ من ميزانية الصحة لوقاية الموارد البشرية وهي الثروة الحقيقة لتونس حتى الآن. وإنّ استحالة تنقيح الخطط الوظيفية يبقى مثالا للعوائق التي تواجه الشركات والتي تقف حائلا أمام توظيف المهارات والكفاءات.
وقد أدت الإصلاحات التي بدأها البعض إلى تعقيد الأمور أكثر، إذ يتفق الجميع على أن التدريب على وظائف الإدارات الجهوية أو المستشفيات أو التفقديات أو أي وظيفة أخرى لإدارة الصحة لم يعد ممكنا مع الاستمرار في القيام بذلك أثناء تأدية العمل، غير أنّ الحل يبقى بطيئا في تنفيذه، ويوضع على جدول الأعمال بانتظام مشروع إنشاء مدرسة وطنية للصحة العامة.

ولا تزال الوظائف المهمة للخدمات الصحية غائبة عن المخططات التنظيمية أو يشغلها أشخاص غير مدربين على هذه الوظائف. لعل أكثر مثال يلفت الإنتباه أنّ القيّم الذي يشرف على الموارد البشرية والمعدات والمستحضرات الصيدلانية المهمة لا يتلق أي تدريب لإدارة هذه الملفات، كما يتم تعيينه ببساطة من قبل رئيس القسم. كما أن وظائف الفنيين الساميين غير مفعّلة وما من فرص تُتاح لتحقيق ذلك. وهذا ينطبق على الأطباء أنفسهم، إذ تتم الترقيات لمعظم مقدمي الرعاية من خارج الجسم الصحي للمستشفيات الجامعية من خلال مناظرات حسب الملفات والتي لا تكون عادلة دائما ما يجعلها مصدرا للضيم.
في عام 2022، لم يتم برمجة التكوين المهني المستمر (DPC) من خلال النصوص ومع ذلك فإن مقدم الرعاية الصحيّة الذي لا يقوم بتحديث معرفته، لا يعدو أن يكون فعّالا بعد 5 سنوات، وذلك بالنسبة لقطاع الصحة لا يعتبر ترفا ولكن التزاما للمهنية. وينبغي أن تكون جميع الفئات المهنية قادرة على الاستفادة بشكل دوري من وثيقة البرنامج الوطني. وينطبق الشيء نفسه على البحوث الطبية، ولا سيما على الصعيد الإقليمي.

وإلى اليوم لم يتمّ تحديث مركز الإعلامية التابع لوزارة الصحة، الذي أنشئ تقريبا قبل 30 عاما (القانون رقم 92-19 المؤرخ في 3 فيفري 1992) لغياب إستراتيجية واضحة. وكان ينبغي تنفيذ التحول الرقمي قبل 20 عاما للمساعدة في إعلام وتثقيف وطمأنة المواطنين ومساعدة المتخصصين في الرعاية الصحية في أداء مهامهم. تضمن المنظومة المعلوماتية الصحية تتبع الإجراءات، ما يمكّن من خفض التكاليف، كما تضمن تبادل المعلومات الطبية ما يسّهل تنسيق الرعاية الصحية لصالح المريض. ولفترة طويلة حرمنا من هذه الأداة الأساسية التي كانت يمكن أن تغيّر الأمور نحو الأفضل. ويبقى التحول الرقمي بطيء للغاية إذ يجب أن يتضمن النظام الوطني للمعلومات الصحية (SNIS) جميع التطبيقات الرقمية التي تسمح بإدارة البيانات الصحية للمستخدم في جميع القطاعات (العامة والخاصة والعسكرية، وما إلى ذلك). ويجب أن تشمل منظمة SNIS جميع أنشطة المستشفيات (العيادات والمستوصفات والمستشفيات) والسجلات الطبية والمختبرات والأشعة والممارسات الخاصة (الطبية وطب الأسنان) والصيدليات وما إلى ذلك؛ فوضى كبيرة كان يمكن تجنبها. والنتيجة الطبيعية للرقمنة، مثل الشفافية والتتبع، تبدو مخيفة. إذ وٌضعت جميع الفرامل بصفة واعية أوغير واعية لتأخير التحول الرقمي. . وقد جوبهت الاستعانة بمصادر خارجية للبعثات، واقتناء برمجيات عالية الأداء، والتعاون مع وكالات أخرى بمقاومة كبيرة ذهبت إلى حد الإضرابات واحتلال المباني، باسم السيادة الوطنية الزائفة بطبيعة الحال. يجب أن تكون لدينا الشجاعة لمراجعة النظام الحالي دون تردّد مع توفير جميع الموارد البشرية والمالية اللازمة لإنشاء وكالة للصحة الرقمية في تونس. وهو ليس خيارا بل خطوة ضرورية لمعالجة عدد لا بأس به من مشاكل القطاع الصحي.

وأخيرا، فإن أوجه التفاوت يأخذ في التوسّع شيئا فشيئا من حيث توفير الرعاية الصحية بين القطاعين الخاص والعام وبين جميع الجهات. فقط من ينظر إلى الخريطة الصحية للبلاد (www. santetunisie. rns. tn) سيرى مدى هذا التفاوت. إذ يوجد في حي واحد من العاصمة عدد من المتخصصين يفوق عدد جميع المتخصصين في مجمل 15 ولاية من ولايات الجمهورية. ويستجيب العرض الحالي للرعاية في البلد لمنطق واحد، وهو مدى قدرة المواطنين على دفع تكاليف صحتهم. وهذه الحالة ليست حتمية، بل هي نتيجة لتخلي الدولة لسنوات عن مهامها التخطيطية والتنظيمية. وهذا التخلي غير عادل لأنه يقترن، كما أشير أعلاه، بمركزية مسيئة. ربما لو كنا قد أنشأنا مجالس صحية إقليمية، برئاسة الولاة، وجعلنا رؤساء البلديات والمجتمع المدني والمواطنين رقباء عليهم، لكانت النتائج مختلفة. هذه أفكار بسيطة تُطرح عدة مرات ولكن لم تطبق إلى الآن.

إن مجالات الإصلاح ليست سوى جزء بسيط، وربما هي الأكثر إلحاحا، مما ينبغي القيام به. أفكر هنا على وجه الخصوص في جميع أشكال الفساد المستشري التي تقوض القطاع الصحي ولم يتم التصدي لها.

وهذا يتطلب تنفيذ إصلاحات عديدة إضافة إلى الطاقة والإقناع، ما سيثير الأزمات والإضرابات والاحتجاجات، ولكن يجب الإقدام على ذلك. وللأسف، ما دام المسؤول مفتقدا للإصلاحات، وما دمنا لم نجند المهارات المناسبة، فإنّ الجميع لن يدرك أنه قد يكون ضحية من ضحايا إخفاقات النظام الصحي، وما دامت سياساتنا غير جريئة ، سوف ننفق المزيد من المال كل عام ، وسوف نكون غير قادرين على مواجهة التحديات. ولكن هذا السيناريو الكارثي ليس حتميا، بل توجد حلول في دولة قوية مع مواطنين يدركون أن نظاما صحيا عادلا وفعالا هو أعظم ثروتهم، فكل مستحيل يتحوّل إلى ممكن.

بقلم الدكتور محمد الصالح بن عمار

المشاركة في هذا المقال

من نحن

تسعى "المغرب" أن تكون الجريدة المهنية المرجعية في تونس وذلك باعتمادها على خط تحريري يستبق الحدث ولا يكتفي باللهاث وراءه وباحترام القارئ عبر مصداقية الخبر والتثبت فيه لأنه مقدس في مهنتنا ثم السعي المطرد للإضافة في تحليله وتسليط مختلف الأضواء عليه سياسيا وفكريا وثقافيا ليس لـ "المغرب" أعداء لا داخل الحكم أو خارجه... لكننا ضد كل تهديد للمكاسب الحداثية لتونس وضد كل من يريد طمس شخصيتنا الحضارية

النشرة الإخبارية

إشترك في النشرة الإخبارية

اتصل بنا

 
adresse: نهج الحمايدية الطابق 4-41 تونس 1002
 
 
tel : 71905125
 
 fax: 71905115