تحت موجبات مختلفة مثل تطبيق الفصل 80 و الإجرائات الإستثنائية و الخطر الداهم والجاثم و غيرها من التبريرات. هكذا تم تعليق نشاط البرلمان و حل المجلس الأعلى للقضاء وتم تجميع السلطات التنفيذية و التشريعية و أخيرا القضائية بين يدي الرئيس وهو طبعا ما يتناقض مع الركن الأساسي و الجوهري للديمقراطية التمثيلية ألا و هو الفصل بين السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية.
لقد انقسم اليسار التونسي بمفهومه الواسع (أحزاب مهيكلة.. تيارات..شخصيات) إزاء إجراءات 25 جويلية إلى تيارين كبيرين. تيار أول ساند تلك الإجراءات و بارك إلغاء الديمقراطية التمثيلية وإرساء الديكتاتورية لأنها حسب رأيهم خلصت البلاد من ديمقراطية فاسدة سيطر عليها الإسلاميون. أما التيار الثاني فقد ندد بتلك الإجراءات و عارضها لأنها تؤسس للحكم الفردي المطلق و الديكتاتورية وسوف تكون مدخلا لضرب الحريات. ولكن وبالمقابل لا يدافع هذا التيار على الديمقراطية التمثيلية باعتبار أنها مكنت الإسلاميين وأطراف رجعية أخرى من التمكن من الحكم ويدعو إلى إسقاط كل منظومة الحكم دون أن يوضح ما هو البديل وكيف يتم إرساؤه.
تذكيرا بأن كلا التيارين شاركا بصورة نشيطة كأحزاب و شخصيات في جميع الانتخابات التشريعية و الرئاسية و البلدية التي تم تنظيمها منذ 2011 و أخرها انتخابات 2019 التي أفرزت المنظومة الحاكمة. فإذا كانت الديمقراطية التمثيلية «فاسدة» و سيئة فلماذا المشاركة فيها أصلا؟؟ أم أن بعض التيارات اليسارية تشارك فيها للإستفادة منها ثم لا تعترف بنتائجها خاصة إذا انتصر فيها الخصوم السياسيون؟؟
• فشل أنماط الحكم الشيوعي وتحولها إلى ديكتاتوريات
إن فكرة الديمقراطية التمثيلية على النمط الليبرالي الغربي غريبة عن الفكر اليساري والماركسي خاصة. فلقد اعتبر ماركس و بعده لينين أن الديمقراطية البرلمانية التمثيلية هي ديمقراطية بورجوازية حيث تمثل أداة لحكم البورجوازية. وكبديل لها طورت الماركسية نظرية ديكتاتورية البروليتاريا. ولكن أغلب الأحزاب اليسارية تخلت عنها لما يحمله مصطلح الديكتاتورية من معاني سيئة وفظيعة. على المستوى العملي والتاريخي أسس حكم الأحزاب الشيوعية لأنظمة ديكتاتورية ضربت الحريات وحكمت شعوبها بالقمع والتعسف. ولم يكن «للفكرة الديمقراطية» وللحريات صدى واسع لدى النخب اليسارية التي كانت تركز على النضال من أجل حقوق العمال و الطبقات الشعبية ضد الرأسمالية. كما مثلت الإشتراكية الهدف الأسمى لليسار دون توضيح علاقتها بالحريات والديمقراطية.
و في إطار معارضة الديكتاتوريات التي سيطرت في البلدان الشيوعية ظهرت التيارات المجالسية منذ الخمسينات داعية إلى الديمقراطية المجالسية على شاكلة السوفيتات ( السوفياتات باللغة الروسية هي المجالس). و لكن السوفيتات كانت من جهة تجربة فاشلة في الجمهوريات السوفياتية إذ تحولت إلى أجهزة بيروقراطية بيد الدولة الديكتاتورية. و من جهة أخرى بقيت «المجالسية» مجرد مقولات نظرية ليس لها أدنى إمكانية واقعية و عملية.
• سقوط حائط برلين و انتصار الديمقراطية التمثيلية
يمكن القول أنه و بعد صراع مرير امتد لنصف قرن انتصر نمط التنظيم السياسي الغربي المتمثل في الديمقراطية البرلمانية على النمط الشيوعي الذي كان متمثلا بديكتاتوريات تقودها أحزاب شيوعية. ولا يمكن إنكار أن عديد الأنظمة الشيوعية وليست كلها حققت مكتسبات اقتصادية واجتماعية هامة للطبقات الشعبية. و لكن ومنذ نهاية القرن الماضي أصبحت الحريات الفردية و الجماعية ومشاركة المواطنين في الحياة السياسية طموحا جديدا و مشروعا للشعوب. لذلك سقطت الأنظمة الشيوعية في روسيا و أوروبا الشرقية على إثر ثورات شعبية و سارت في اتجاه الحريات والديمقراطية على النمط البرلماني الغربي باعتبارها نمط التنظيم المجتمعي الأكثر قربا من حاجيات المواطنين و تطلعاتهم. و مثل سقوط حائط برلين سنة 1991 أكثر الأحداث رمزية في التغيير الجديد في نمط تسيير المجتمعات و انتشر وهجه و تأثيره في جميع أنحاء العالم حتى أصبحت الحريات والديمقراطية البرلمانية بمثابة الدين الجديد في العالم.
هكذا تبنت الحركات اليسارية والأحزاب الشيوعية في أوروبا الشرقية و الغربية وفي أمريكا اللاتينية و حتى في إفريقيا «الديمقراطية التمثيلية» بل و أصبحت مستفيدة منها حيث مكنتها الحريات السياسية و الديمقراطية الليبرالية من حق الترشح و من الاقتراب من الشعب و النجاح في الانتخابات و الوصول إلى البرلمان و منصب الرئاسة.
• أي منظومة ديمقراطية يدعو
اليسار التونسي؟
لقد استفاد اليسار التونسي من الديمقراطية التمثيلية التي حققتها ثورة الحرية و الكرامة في 14 جانفي 2011. و من الصادم أنك ترى قياديين يساريين يتنكرون للحريات والديمقراطية وهي التي أخرجتهم من الحلقات السرية الهامشية ومكنتهم من التواصل مع الشعب و نيل ثقته في البرلمان و مكنتهم من الدفاع عن الطبقات الشعبية. و قلد تمكن اليسار التونسي الموحد في الجبهة الشعبية في انتخابات 2014 من الحصول على 15 مقعد في البرلمان و الحصول على المرتبة الثالثة في الإنتخابات الرئاسية و هو ما لم يحققه أي تيار يساري عربي في التاريخ. و قد تمكن خلال الدورة البرلمانية الماضية من لعب دور هام في الحياة السياسية. أما فشل اليسار في انتخابات 2019 فلا يمكن تحميله إلى منظومة الديمقراطية التمثيلية وإنما يتحمل مسؤوليته اليسار نفسه والحال أنه تقدم لتلك الانتخابات مشتتا و متشرذما فمني بهزيمة موجعة.
لقد أثبتت جميع التجارب أن أكبر خاسر من إرساء الديكتاتورية هي القوى التقدمية و الطبقات الشعبية لأن الحريات النقابية و السياسية هي السبيل الوحيد للنضال و الدفاع عن مصالحها.
لقد أن الأوان لليسار التونسي حتى يكشف للنخب وللمواطنين عن أي ديمقراطية يريد حتى لا يفقد مصداقيته و حتى يساهم في تطوير الحياة السياسية في البلاد. فلا يمكن أن نقبل بلعبة الانتخابات ثم نتنكر لنتائجها لأنها لم تكن في صالح اليسار. و لا يمكن الإلتجاء للديكتاتورية للإستقواء على منافس سياسي. فالعمل مع الجماهير الشعبية و الاهتمام بمشاغلها و توحيد الصفوف هو الكفيل بالانتصار مثلما أظهرته انتخابات 2014.
إن الديمقراطية التمثيلية بما تحتويه من حريات ومن فصل السلطات و رقابة السلطات بعضها لبعض و قاعدة الإنتخاب الحر و الشفاف و التداول على الحكم هي النظام الأقل سوءا و الذي تبنته مختلف الأحزاب و التيارات اليسارية في العالم المتقدم. لا شك أن أمراضا عديدة أصابت هذه المنظومة السياسية خاصة في بلدان الانتقال الديمقراطي مثل الفساد و المال السياسي و الزبونية. ولكن من الضروري إصلاح هذه المنظومة عوض تقويضها و إرساء ديكتاتورية تكون القوى التقدمية والطبقات الشعبية أكبر الخاسرين فيها.