وفي المحطات الكبرى في حياة الشعوب والأفراد. هناك السرديات الكبرى كما يسميها «ليوتار» وهي السرديات التي تؤمن لمجتمع ما تناسقا في قيمه ومعتقداته وتعطيه الإجابات الممكنة حول مشاغله المختلفة. وتظهر السرديات الكبرى في شكل إيديولوجيات وفي شكل أنساق فكرية وذاكرة وهي أشبه بالديانات في قوة الإيمان والاعتقاد فيها. سرديات القرن العشرين عديدة منها ما يتصل بالحداثة الغربية ومنها ما يتصل بالاشتراكية وفروعها ومنها أيضا ما يتصل بالقومية وبالتحرر الوطني. هذه كلها سرديات أنتجت أفكارا وبنت رؤى للعالم وصنعت دولا وخرائط جيوسياسية كما فجرت حروبا وصراعات دامية. كل سردية كانت تدافع عن فكرة كبرى، الحداثة الغربية تتكلم عن العقل ودوره في تحقيق التقدم والاشتراكية تمني النفس بالعدالة الاجتماعية وبانعتاق الشعوب من مآلات الرأسمالية.
حركات التحرر الوطني أخذت هي الأخرى نصيبها في خارطة سرديات القرن العشرين الكبرى. وكانت سردية هذه الحركات التحررية مبشرة بأحلام شعوب للخروج من التخلف والاستعمار وتلتها سردية البناء الوطني ومشاريع الإقلاع والتنمية. وحول هذه السرديات تشكلت خطابات وأنساق فكرية وذاكرة وزعامات وبطولات وعناوين ورمزيات. ثورة المليون شهيد في الجزائر هي إحدى أقوى السرديات التي يقع استعمالها إلى الآن. وهي سردية دامجة تشكلت حولها منظومة حكم ومنظومة مجتمع.
القرن العشرون هو قرن هذه السرديات الكبرى التي أعلن «ليوتار» نهايتها. العقل الغربي المبشر بالتقدم لم يعد قادرا على الإقناع. الحروب العالمية وما خلفته من دمار أثبتت محدودية هذه العقلانية في إنجاز التقدم. وعجزت البنى الاجتماعية عن تحقيق الخلاص الفردي. ولم يعد للأنظمة وللأفكار الكليانية تلك الجذوة التي شدت بها إليها شعوبا ومجتمعات فسقط جدار برلين.
سردياتنا الكبرى هي الأخرى سقطت في امتحان الشرعية وأمتحان الإغراء بعد فشل تنموي وسياسي مدوي. وبدأت ملامح سرديات صغرى في التشكل. سرديات القرن العشرين هي سرديات جماعية، سرديات بنى وأفكار كبرى. أما السرديات الجديدة فهي سرديات تتشكل حول مسارات الأفراد وخياراتهم. الأفراد هم حجر الزاوية فيها يصنعونها بأشياء بسيطة تخص معيشهم اليومي ويضعون داخلها طموحاتهم وانشغالاتهم، أمانيهم وانكساراتهم. الكل يحدث حول الفرد وبه، فهو الذي يتحمل مسؤولية بناء هذه السردية وهو الذي يختار لها ما يناسب من كلمات ومن صور ومن مخيال.
التحول الذي وقع في منظومة السرديات هو عندما أصبحت المشكلات الاجتماعية تعاش كمشكلات فردية. وهو تحول سوسيولوجي عميق لأن السرديات الكبرى كانت دوما تعتبر المشكلات الفردية مشكلات جماعية ويجب حلها بطريقة جماعية. ولكن هذا الموديل فشل عموما وأصبح الفرد يبحث عن خلاصه دون تدخل البنى الاجتماعية المرافقة التي أصابها الوهن. وجد الفرد نفسه وحيدا أمام كم هائل من المتطلبات ومن التحديات ومن الإحباطات كذلك وعليه أن يجد لها مخرجا مشرفا. عليه أن يبني سرديته الخاصة به فشلا كانت أو نجاحا. هذه السرديات الصغرى أصبحت هي الأخرى موضوعا للعرض وللمشاهدة فظهرت برامج تلفزيون الواقع وهي سوق السرديات واسع الانتشار فيحولها إلى قيمة استعمالية.
إن الهوس بالأنستغرام وبصور السيلفي لا يمكن أن يكون إلا تعبيرا عن الرغبة المحمومة لدى الأفراد لامتلاك سرديتهم الخاصة، ومتابعة سرديات الآخرين. يتابعونها يوميا ويعتنون بها ويضمنون لها نجاحا في التأثير وفي إحداث الدهشة والإعجاب. المستعملون للأنستغرام كوعاء لهذه السرديات الصغرى يفوق المليار شهريا. هؤلاء يعرضون أبسط الأشياء وربما أكثرها تفاهة حول حياتهم بتفاصيلها المملة، ولكن في مللها وتفاهتها تكمن أهميتها ومعناها لدى الساردين. المستشهرون تعنيهم هذه التفاصيل العابرة لحياة الناس، حكايات التجميل والأكل والملابس والموضة والبيع بالتجزئة تأتي في المراتب الأولى من حيث الاهتمام. نصف المليار من الفاعلين في هذا الوعاء الجديد للسرديات هم من النساء ومن الشريحة الشبابية بين 18 و35 سنة، هؤلاء هم القادة الجدد لهذه السرديات الصغرى، يبنون هوياتهم عبر الحكي، هي الهوية السردية كما يسميها « بول ريكور». وكلما كانت هذه السرديات قليلة الكلمات كلما جلبت اهتماما أكبر بها. لا ننسى أن الكلمة المفتاح في الأنستغرام هي كلمة « ستوري» ما يعني حكاية.
الطلب الاجتماعي على السرديات الصغرى في شكله الافتراضي وغير الافتراضي يكشف عن تحدّ يواجهه الفرد المطالب دوما تحت إلحاح مجتمع الفرجة بأن يبتكر سردية ولو كانت مصنوعة من أوهام. لقد انتقلنا من صراع الطبقات إلى صراع السرديات، هذا الأخير لا يقل ضراوة ولا يقل ألما عن الأول أو قذ يكون التعبير الجديد عنه. في السرديات الصغرى هناك جراحات ما يسميه « فرويد» بنرجسية الفوارق الصغرى.