والإستراتيجية الى أن اندلاع حرب بين البلدين لن يهدد أمن البلدين فقط بل سيقود العالم إلى حرب كونية جديدة ستكون أكثر تدميرا من الحربيتين العالمتين الأولى والثانية باعتبار امتلاك أغلب البلدان للسلاح النووي ولأسلحة دمار شامل أخرى .ويعود هذا الخوف والهلع كذلك إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية لن تقف مكتوفة الأيدي في صورة اندلاع الحرب.
لقد كانت أهمية النزاع وتداعياته على السلم العالمية وراء الخوف والانتظار الذي ساد العالم في الأسابيع الأخيرة. وكانت الأخبار والمعطيات المتضاربة وراء الانتظار القلق.فقد تواصلت المحاولات الديبلوماسية من جهته من اجل إيجاد مخرج ديبلوماسي للصراع وتفادي تحوله إلى حرب مفتوحة.فتعددت اللقاءات بين مختلف الأطراف وآخرها اللقاء الذي جمع الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين .
ولئن لم يتم الإعلان على نتائج مشجعة إلا ان اللقاء أعطى الفكرة بأننا لم نصل إلى نقطة اللاعودة.
و في نفس القوت لم يتردد الرئيس الأمريكي في الإعلان بطريقة مستمرة ومتواصلة أن عن معلوماته والتقارير المخابراتية تشير إلى أن روسيا على أهبة الدخول في الحرب.كما أن اعتراف الرئيس الروسي باستقلال جمهوريتي دونتاسك (Donetsk) ولوغانسك (lougansk) يوم 21 فيفر ي المنقضي كان مؤشرا على استعداد موسكو للمرور إلى مرحلة قصوى في الصراع مع أوكرانيا .
انتهى هذا الانتظار القلق عندما أعلن الرئيس بوتين في مداخلة تلفزيونية صباح الخميس 24 فيفري 2022 عن انطلاق العمليات العسكرية وانطلاق القوات الجوية والقوات الأرضية في هجومات واسعة النطاق للسيطرة على المناطق الحيوية والعسكرية في أوكرانيا .
وقد شكل انطلاق العمليات العسكرية صدمة كبيرة للمجتمع الدولي وبصفة خاصة لأوروبا .فلأول مرة تجتاح قوة عظمى مثل روسيا إحدى جاراتها وتضرب عرض الحائط بالمعاهدات والاتفاقات الدولية وبتحذيرات القوى الكبرى الأخرى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا ومنظمات المجتمع المدني مثل الأمم المتحدة .
وقد زادت التصريحات النارية للرئيس بوتين الطين بلة حيث كنت تهديداته بمثابة التحدي الصارخ للمنظومة الدولية ولفكرة السلم العالمية .
وقد أثار الهجوم العسكري الروسي الكثير من ردود الأفعال واسال الكثير من الحبر لدى الخبراء والمحللين لفهم منطلقاته وانعكاساته على السلم العالمية وعلى العلاقات الدولية .
وفي رأيي وعلى أهمية وجهات النظر التي وقع التطرق إليها لدراسة هذا التطور الخطير، تناسينا وغابت عنا هيكلة العلاقات الدولة وبصفة خاصة التراجع الكبير للعولمة وأزمتها الخانفة التي تعيشها منذ سنوات .وتشكل هذه الحرب والاعتداء العسكري لروسيا على أوكرانيا الفصل المأساوي لهذه العولمة الهجينة والأزمة العامة التي تنخرها منذ سنوات .
• العولمة ونهاية الدولة الوطنية
شكلت العولمة الإطار الذي حاول فيه العالم وخاصة الدول الكبرى بصفة خاصة تجاوز أزمة الدولة الوطنية منذ بداية ثمانينات القرن الماضي .وقد شكل هذا الإطار قطيعة كبرى مع التفكير ومع الأطر السياسية السائدة والتنظيم السياسي منذ القرن السابع عشر والذي ارتكز بصفة أساسية على الدولة الوطنية وجعل منها لا فقط أساس السيادة بل كذلك الإطار المنظم لعيش المجموعة على عديد المستويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية .
فقد فتحت العولمة منذ بداية الثمانينات الطريق لمشروع جديد سعى إلى تجاوز أزمة الدولة الوطنية من خلال الانفتاح على العالم وإلغاء الحدود الوطنية بصفة تدريجية .وتجسدت هذه الرؤيا الجديدة للعالم بصفة خاصة على المستوى الاقتصادي حيث عملت النيوليبرالية الصاعدة على إلغاء حدود الدولة الوطنية وفتح العالم للتجارة وحركة رأس المال والاستثمارات الخارجية .وعرفت هذه المرحلة تطورا كبيرا للتجارة العالمية التي صبحت احد المحركات الرئيسية للنمو .كما عرفت هذه الفترة تطور حركة الاستثمارات التي تجاوزت الحدود القطرية للدول لتشكل تنظيما عالميا لسلسلة الإنتاج يرتكز على ميزات الدول .
كما مكنت هذه العولمة في فترة قصيرة من بروز تنظيم جديد للاقتصاد الدولي يرتكز بالأساس على الأقطاب الصناعية الكبرى والمؤسسات المالية الضخمة .كما نجحت العولمة في إيجاد المؤسسات القادرة على إدارة الشأن الاقتصادي العالمي مثل صندوق النقد الدولي والبنك الدولي وعلى تنظيم التجارة الدولية والتحكيم في الخلافات التجارية الدولية في إطار منظمة التجارة العالمية .
كما عملت العولمة على تجاوز الدولة الوطنية على المستوى السياسي من خلال مسارين مهمين .المسار الأول يهم التعاون والتكامل الإقليمي والذي تجاوز الجانب الاقتصادي والمؤسساتي ليقتحم الجانب السياسي .فقد قامت اغلب تجارب التعاون الإقليمي على بناء اطر تنفيذية وتشريعية وحتى قضائية تجاوزت في عديد الأحيان صلوحيات السلط الوطنية .
أما المسار الثاني الذي انخرطت فيه العولمة فيهم التعاون والتنسيق العالمي في السياسيات والاختيارات الكبرى .وقد جاءت في هذا المجال منظومة السبع الكبار ولقاءات القمة بينها لتشكل الإطار لتقريب وجهات النظر وتوحيد المواقف والسياسات في أهم القضايا الدولية السياسية والاقتصادية.
إلى جانب المستويات الاقتصادية والسياسية حملت العولمة مشروعا فلسفيا وفكريا سعى إلى الخروج من فكرة الإرادة والطموح الإنساني الذي حملته فكرة التقدم ببناء الدولة الفاضلة والمجتمع الأمثل .ةقد دافع مشروع العولمة على ضرورة التخلص من هذه الأفكار البالية التي قادت العالم في السباق إلى أكبر المآسي والى المرور إلى تصور فلسفي يعتمد بالأساس على احترام إرادة وحرية الفرد وجعلها فوق اي فكرة للإرادة الجماعية .وقد قاد هذا التصور العولمة إلى التخلص من كل الأفكار والمؤسسات الموروثة من التصور القديم للحداثة وبصفة خاصة الدولة والحدود الوطنية وحتى الأجسام الوسيطة كالأحزاب والمنظمات الجماهيرية .إلا أن هذه الرؤيا والنظرة الطوباوية ستقود العالم إلى أهم الأزمات وستنهي إلى فشل المشروع الطوباوي للعولمة .
• أزمة المشروع الطوباوي للعولمة والمخاطر الكبرى
عرفت العولمة نجاحا كبيرا في عقدي الثمانينات والتسعينات .فقد عرف الاقتصاد الكثير من النمو والتطور .كما عاش العالم فترة مهمة من الاستقرار السياسي .وقد تدعمت هذه المسارات مع سقوط جدار برلين ونهاية الاتحاد السوفياتي والمعسكر الاشتراكي سنة 1985.إلا أن سماء العولمة شهدت الكثير من الاضطراب وتراكم السحب منذ بداية الألفية.فقد توالت الأزمات المالية والاقتصادية والتي وصلت إلى حد تهديد الاقتصاد العالمي سنة 2008.كما عرف العالم تصاعد الأزمة المناخية والعجز المتواصل للدول عن وضع السياسات الضرورية لإيقاف الارتفاع الحراري .كما عرفنا تصاعد الفوارق الاجتماعية والتهميش الاجتماعي والذي شكل عاملا كبيرا لعدم الاستقرار السياسي في الكثير من البلدان .
كما كان لظهور البلدان الصاعدة مثل الصين والهند والبرازيل وروسيا الكثير من التأثير على العلاقات الدولية بسبب تصاعد المنافسة الدولية مع البلدان الرأسمالية التقليدية .فكثرت الحروب التجارية والعقوبات والمواجهات لتؤثر على استقرار العالم وتساهم في الأزمات الاقتصادية والمالية .
ولم تقتصر الأزمات على الجانب الاقتصادي والمالي بل شملت كذلك الجوانب السياسية حيث شهد العالم بعد فترة من الاستقرار عودة شبح الحرب مثل العراق والبلقان وسوريا وليبيا واليمن .ولئن بقيت هذه المواجهات محدودة في انتشارها وتأثيراتها الا إنها شكلت في كل مرة تهديدا جديا للاستقرار والسلم العالميين باعتبار انخراط القوى العظمى في اغلبها إن لم نقل جلها .
وكانت هذه الأزمات المتواترة والمتعددة وراء انهيار المشروع الطوباوي للعولمة ودخوله في نفق مظلم .وفي رأيي تكمن أسباب هذه الأزمة في ثلاث قضايا أساسية .
المسألة الأولى فكرية وفلسفية وتهم إرادة الغرب في فرض تصور واحد للحداثة غير منفتح على الشعوب الأخرى وأنماط تفكيرها وأنساقها الفسلفية وحصيلة تجاربها الثقافية .وهذا لا يعني الدفاع على مبدإ خصوصية المشروع الحداثي الأوروبي بل نؤكد على علوية بعض المبادئ الأساسية كالحرية والتعدد والديمقراطية وحقوق الإنسان .إلا أن المشترك الجمعي الذي يجب أن نسعى إلى قيامه لابد أن يأخذ بعين الاعتبار خصوصية المسارات التاريخية والحضارية للأخر .
المسألة الثانية التي ساهمت في أزمة سردية العولمة السعيدة تعود في رأيي إلى النظرة الفوضوية (libertaire) التي قادتها والتي تؤكد أن حوكمة العالم لا تتطلب تدخل مؤسسات لتنظيم المسارات ومحاولة فض الخلاقات والنزاعات عند ظهورها .ولم يقف هذا المبدأ على الاقتصاد حيث تركت العولمة للسوق مهمة تعديل النشاط الاقتصادي وشملت كل المجالات الأخرى.وقد اثبتت الأزمات المتتالية وتصاعد الاضطرابات والتوتر عقم هذه الرؤيا وضرورة بناء مؤسسات قادرة على بناء الاستقرار .
المسألة الثالثة والتي ساهمت في أزمة العولمة السعيدة تخص التعاطي مع القادمين الجدد.وقد اتسمت علاقة البلدان الرأسمالية التقليدية بالرفض وعدم فتح المجال للقادمين الجدد من البلدان الصاعدة مثل الصين والهند وروسيا وغيرها .وقد شكلت مجموعة العشرين محاولة محتشمة لتجاوز الهيمنة التقليدية للغرب وتشريك القادمين الجدد.إلا أن هذه المحاولة لم تساهم مساهمة فعالة في فتح مجال حوكمة العالم للقادمين الجدد.
• الحرب في أوكرانيا وأزمة العولمة
تشكل الحرب في أوكرانيا تعبيرة لهذه الأزمة ولفشل العولمة والمؤسسات الدولية في إدارة الصراعات بطريقة حضارية دون اللجوء للصراع وللحرب .فالخلاف ليس بالجديد ويعود التوتر بين أوكرانيا وروسيا إلى السنوات الأولى لاستقلال أوكرانيا في 1991.فقد عرفت علاقة البلدين منذ ذلك التاريخ الكثير من التوتر والصراعات تحولت إلى حروب ومحاولات انفصال في بعض الجهات .وقد ازدادت أوزار الحرب والخلافات في التطور عندما قررت أوكرانيا الدخول إلى حلف الناتو .ولم تنجح كل المحاولات الديبلوماسية في فك فتيل الحرب وإيقاف أبواقها .
وتعتبر روسيا من جهة أن في دخول أوكرانيا الى منظومة الناتو تهديد لأمنها القومي وتراجع عن الإيقاف الحاصل مع عدد الجمهوريات المستقلة اثر حل الاتحاد السوفيتي .
ومن جهة أخرى تعتبر أوكرانيا المدعومة من الغرب أن الحل الوحيد لحماية أمنها من التدخل يكمن في الدخول إلى حلف الناتو .وبين هذا وذاك يعيش العالم اليوم على تهديد كبير للاستقرار والسلم العالمي .
إن الوضع الخطير الذي تمر به المنظومة يتطلب بادئ ذي بدء تراجع القوات الروسية إلى حدودها وإيقاف الحرب التي لا يمكن أن نشرعها بأية ذريعة ثم فتح الباب لمفاوضات جدية وحقيقية للوصول إلى حل شامل وفي نفس الوقت لابد من فتح النقاش والحوار للخروج من أزمة العولمة وبناء منظومة عالمية جديدة تتضمن التعاون والتعدد والانفتاح على الأخر كأسس لسلم عالمية واستقرار دولي .